نطاق العقد
نطاق العقد
دراسة مقارنة
أطروحة تقدم بها الطالب
سلام عبد الزهرة عبد الله الفتلاوي
إلى
مجلس كلية القانون /جامعة بغداد
وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكتوراه في القانون الخاص
أشراف
أستاذ القانون المدني المساعد
الدكتور عزيز جواد الخفاجي
1427هـ 2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
(( ياايها الذين امنوا اوفوا بالعقود....))
صدق الله العظيم
سورة المائدة/الآية 1
الأهداء
الى
من حملني صغيراً ورعاني كبيراً.... والدي.
من ارضعتني الحب والحنان والشفقة.... والدتي.
أساتذتي الأجلاء تقديراً وشكراً وعرفاناً بالجميل.
زملائي الافاضل واخواني الاعزاء.
زوجتي تقديراً لدورها وإعزازاً لجميل صبرها.
أهدي هذا الجهد المتواضع.
شكر وتقدير
لا يسعني وقد أنهيت مسيرة بحثي إلا أن أتقدم بالشكر والامتنان إلىأستاذي الفاضل الدكتور عزيز جواد الخفاجي لما غمرني به من عطاء ثر ومعلومات قيمة أنارت لي طريقي في كتابة هذه الأطروحة فكان بحق أباً ومعلماً وموجهاً ... أسال الله ان يمتعه بالصحة والعافية.
كما أتقدم بالشكر إلى أساتذتي في كلية القانون بجامعة بغداد لما بذلوه من جهود مضنية أثناء دراستي.
واشكر كل زملائي الافاضل الذين قدموا لي العون والمساعدة في اعداد هذا العمل.
وأخص بالشكر أيضاً منتسبي مكتبة كلية القانون بجامعة بغداد ومكتبة كلية القانون بجامعة بابل لما قدموه لي من عون في تزويدي بالمصادر والمراجع التي أغنت البحث.
وأخيراً أشكر السيدة كوثر عبد الحسين لجهودها في طباعة هذه الأطروحة وإخراجها بالشكل اللائق.
المحتويات
الموضوع
|
الصفحة
|
المقدمة
|
9
|
الباب الأول: اكمال نطاق العقد
|
13
|
الفصل الأول: ماهية اكمال نطاق العقد
|
18
|
المبحث الأول: مفهوم اكمال نطاق العقد
|
20
|
المطلب الأول: تعريف اكمال نطاق العقد
|
21
|
المطلب الثاني: تمييز اكمال نطاق العقد مما يشتبهبه
|
25
|
الفرع الأول: تمييز اكمال نطاق العقد من تفسيره
|
26
|
الفرع الثاني: تمييز اكمال نطاق العقد من تعديله
|
31
|
الفرع الثالث: تمييز اكمال نطاق العقد من تصحيحه
|
35
|
المبحث الثاني: صور اكمال نطاق العقد
|
39
|
المطلب الأول: اكمال نطاق العقد اعمالاً لنص (م86/ف2)
|
40
|
الفرع الأول:شروط انعقاد العقد في ضوء احكام م(86/ف2)
|
42
|
الفرع الثاني: قيام القاضي باكمال العقد
|
51
|
المطلب الثاني: اكمال نطاق العقد أعمالاً لنص المادة (150/ف2)
|
55
|
الفصل الثاني:تأصيل دور القضاء في اكمال نطاقالعقد
|
65
|
المبحث الأول: أحكام اكمال نطاق العقد
|
66
|
المطلب الأول: تحديد مصدر الالتزامات التي يضيفها القاضي
|
67
|
الفرع الأول: القاضي يعبر عن ارادة المتعاقدين
|
67
|
الفرع الثاني: القاضي يستند الى معايير موضوعية
|
70
|
المطلب الثاني: آلية أكمال نطاق العقد
|
77
|
الفرع الأول : معنى مستلزمات العقد
|
78
|
الفرع الثاني: محددات مستلزمات العقد
|
81
|
المبحث الثاني: الاسباب التي دفعت القضاء الفرنسي لتعزيز محتوى العقد
|
91
|
المطلب الأول: الاختلال في التوازن الاقتصادي والمعرفي بين المتعاقدين
|
92
|
الفرع الأول:عوامل التطور الاقتصادي والتقني
|
93
|
الفرع الثاني:حماية الطرف الضعيف في العلاقة العقدية
|
98
|
المطلب الثاني:شيوع مبادئ جديدة في نظرية العقد
|
103
|
الفرع الأول:التعاون الايجابي بين المتعاقدين
|
105
|
الفرع الثاني: الثقة المشروعة بين المتعاقدين
|
108
|
الباب الثاني: توسيع نطاق العقد
|
111
|
الفصل الأول:الالتزامات التي أنشأها القضاء الفرنسي
|
112
|
المبحث الأول:الالتزام بالاعلام أو التحذير أو النصيحة
|
114
|
المطلب الأول: تحديد ماهية هذه الالتزامات
|
115
|
الفرع الأول:الوجهة التي تعطيها معنى واحد
|
115
|
الفرع الثاني:الوجهة التي تعطيها معاني متعددة
|
118
|
المطلب الثاني:تمييزها مما يشتبه بها من التزامات أخرى
|
126
|
الفرع الأول: تمييز الالتزام بالاعلام العقدي من الالتزام بالاعلام السابق على التعاقد
|
127
|
الفرع الثاني: تمييز الالتزام بالتحذير من الالتزام بضمان العيوب الخفية
|
134
|
الفرع الثالث:تمييز الالتزام بالنصيحة من الالتزام بتقديم المشورة
|
138
|
المبحث الثاني:مضمون الالتزام بالاعلام أو التحذير أو النصيحة
|
140
|
المطلب الأول: الالتــزام بالأعــلام
|
141
|
المطلب الثاني: الالتــزام بالتــحذير
|
152
|
المطلب الثالث: الالتــزام بالنصيحــة
|
161
|
الفصل الثاني: التأصيل الفقهي للالتزامات التي وسعّت من نطاق العقد
|
165
|
المبحث الأول: الأسس التي أقام عليها الفقه الالتزامات بالأعلام والتحذير والنصيحة
|
166
|
المطلب الأول: وجهة عدها التزامات متفرعة من التزامات أخرى
|
167
|
الفرع الأول: وجهة عدها التزامات متفرعة من الالتزام بالضمان
|
167
|
الفرع الثاني: وجهة عدها التزامات متفرعة من الالتزام بالتسليم
|
171
|
الفرع الثالث: وجهة عدها التزامات متفرعة من الالتزام بالسلامة
|
173
|
المطلب الثاني: وجهة عدها التزامات مستقلة
|
176
|
الفرع الأول: مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود اساس هذه الالتزامات
|
177
|
الفرع الثاني: وجهة عدها من مستلزمات العقود
|
179
|
المبحث الثاني: المسؤولية الناشئة عن الاخلال بهذه الالتزامات
|
181
|
المطلب الأول: نطاق الالتزامات بالاعلام والتحذير والنصيحة من حيث الاشخاص
|
182
|
الفرع الأول: الدائن بهذه الالتزامات
|
183
|
الفرع الثاني: المدين بهذه الالتزامات
|
188
|
المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للالتزامات بالأعلام أو التحذير أو النصيحة
|
191
|
الفرع الأول: الوجهة التي تعدها التزامات بنتيجة
|
191
|
الفرع الثاني: الوجهة التي تعدها التزامات بوسيلة
|
193
|
الخاتمة
|
199
|
المراجع
|
203
|
ملخص الأطروحة باللغة الإنكليزية
|
215
|
مقدمة
يعد العقد من اهم ادوات التعامل بين الأشخاص لتحقيق أهداف معينة على صعيد العلاقات القانونيةوالاقتصادية، فالشخص عندما يقدم على ابرام عقد ما، فانه يرغب في اشباع حاجة معينة لا يستطيعإشباعها بمفرده، فهو وسيلة الفرد لتحقيق غاياته.
لذا كانت القواعد التي تحكم العقد سواء كانت متعلقة بأنشائه او بتنفيذه عرضة للتغير والتبدل بتطور حاجات الافراد وتنوعها، والفلسفةالاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع، فقد حاولت كل فلسفة ان تطوع العقد بما ينسجم مع افكارها، وعلى الرغم من تعدد هذه الفلسفات بل وتناقضها في كثير من الاحيان، الا أنها لم تستطع ان تلغي الدور المهم الذي تقوم به هذه الاداة في الحياة القانونية والمعاملات اليومية بين الافراد.
من هنا، استقطب موضوع العقد اهتماماً كبيراًوكان موضوعاً لكثير من الكلام، وخاصة فيما يتعلق باثاره حقوقاً كانت ام التزامات، فقد حاول اتجاه فلسفي تمثله نظرية سلطان الإرادة ان يربط هذه الاثار بارادة المتعاقدين سواء كانت صريحة او ضمنية، في حين ربط اتجاه اخر تمثله النظريات ذات الطابع الاجتماعي بين اثار العقد والقانون الذي عد على وفق هذا الاتجاه هو الذي يسبغ القوة الملزمة على العقد، واتخذت القوانين مواقف توفيقية بين هاتين الوجهتين كما سلك الفقه فيما بينهما مسالك شتى .
ويحق لنا بعد هذا، ان نسلط الضوء على مدلول فكرة نطاق العقد، ونكشف عن اهميته، ونبين الغرض من بحثه، ثم نرسم في الاخير خطة بحثه ومنهاج هذا البحث، وهذا ما سنتولاه تباعا في الفقرات الاتية:
اولاً: مدلول فكرة نطاق العقد
يمتد نطاق العقد بمعناه الواسع، فيما نرى، الى كل ما يرتبه العقد من اثار سواء كانت من جهة الأشخاص، أي تحديد الشخص الذي يسري العقد في مواجهته، او من جهة الموضوع وذلك ببيان القوة الملزمة للعقد ورسم صورة كاملة لما ينتجه من التزامات من خلال تفسيره وتكييفه وفي الاخير تحديد نطاقه.
ولا نقصد بنطاق العقد موضوع بحثنا هذا المعنى الواسع، وانما مقصدنا المعنى الضيق لهذا المصطلح والذي ينصرف الى بيان ما ينتجه العقد من التزامات.
فقد كانت الالتزامات المتولدة من العقد مثار جدل كبير من جهة اقتصارها على ما اتجهت اليه ارادة المتعاقدين ام شمولها لالتزامات اخرى وان لم تنصرف اليها ارادتيهما.
ولعل نقطة البداية التي سننطلق منها في هذا البحث هو نص 150 /2 من القانون المدني العراقي التي قررت صراحة بان العقد لا يقتصر على ما ورد فيه بحسب ما اتجهت اليه ارادة المتعاقدين، وانما يشمل كل ما يعد من مستلزماته بحسب طبيعة الالتزام على وفق محددات القانون والعرف والعدالة، وما ابتدعه اجتهاد القضاء الفرنسي من التزامات اضافها الى مضمون العقد مستفيداً من سلطته في اكمال نطاق العقد الذي يشوب مضمونه النقص استناداً الى( م 1135 مدني فرنسي) المقابلة لنص (م 150 /2 مدني عراقي)، كان لها دور كبير في توسيع نطاق العقد.
ثانيا: أهمية مضمون نطاق العقد
يكتسب موضوع نطاق العقد اهمية كبيرة، تنبثقمن الجهود القضائية التي بذلت لتوسيع هذا النطاق، بادخال التزامات جديدة الى مضمون العقد لاعادة التوازن بين طرفيه خاصة في ظل التطور التقني الذي يشهده المجتمع البشري، حيث نجد وخاصة في حقل العقود ذات الطابع المهني ان احد طرفيه هو ذو خبرة وتخصص، في حين ان الطرف المقابل غالباً ما يكون شخصاً اعتيادياً (لا تخصص له) لذا كان لابد من اضافة التزامات جديدة على عاتق المتخصص لحماية حقوق الطرف الضعيف المتعاقد معه.
من هنا، اصبحت عملية تحديد نطاق العقد واكماله اذا كان يشوبه النقص وسيلة حمائية استثمرها القضاء الفرنسي1) لحفظ مصالح بعض الفئات في المجتمع والتي تحتاج الى الرعاية، فأبتدع التزامات جديدة هي الاعلام، التحذير، النصيحة والتي تتدرج من تقديم البيانات اللازمة عن محل العقد او وسائل تنفيذ الالتزامات الناشئة منه، وتصل الى حد تدخل احد طرفي العقد في فرض سلوك معين على الطرف الاخر كما في الالتزام بالنصيحة.
ثالثاً: اهداف البحث
يهدف هذا البحث الى بلورة حقيقة موضوع نطاقالعقد بصورة تلم شتاته وتجسد ابعاد فكرته برسم صورة واضحة لتحديد نطاق العقد وحالات تدخل القاضي لاكمال النقص الذي يشوب مضمون العقد والوسائل والاليات التي يتم بها الاكمال، كما يهدف الى القاء الضوء على الاجتهاد القضائي الذي اثرى مضمون العقد ببيان الالتزامات الجديدة التي كشف عنها القضاء الفرنسي واظهار اهميتها في تحقيق التوازن العقدي بين طرفي العقد وخاصة في اطار العقود ذات الطابع المهني، لنصل الى ارساء قواعد نظرية عامة لاكمال نطاق العقد تكون منطلقاً لاثراء مضمون العقد بالالتزامات التي تعيد التوازن المعرفي بين المتعاقدين، ومحاولة ارشاد القضاء العراقي للسير في هذا الاتجاه، كما يرمي الى القطع في مواضع الجدل والاختلاف في هذا الموضوع وتقديم الراجح من الاراء والمناسب من الحلول من وجهة نظرنا وعلى وفق ما يتحصل لنا من عملية تسليط الضوء على القانون تشريعاً وفقهاًوقضاءً ولاسيما القانون المدني العراقي ومدى قدرة قواعده العامة على استيعاب هذه التطورات.
رابعاً:صعوبات البحث
من ابرز الصعوبات التي واجهناها في هذا البحث ندرة كتابات الفقه العراقي حول موضوع نطاق العقد والحالات التي يتدخل فيها القاضي لاكمال هذاالنطاق، وندرة الكتابات التي عالجت الالتزامات الجديدة التي اثرت مضمون العقد، وغياب التطبيقات القضائية العراقية، من هنا اعتمدنا على الفقه والقضاء الفرنسيين والمصريين املاً في توجه الفقه والقضاء في العراق لاعطاء هذا الموضوع اهمية اكبر في المستقبل.
خامساً:خطة البحث ومنهاجه
لقد وجدنا من المناسب لتحقيق مرامي هذا البحث ان نتناوله في بابين: نعمد في اولهما لدراسة اكمال نطاق العقد ببيان ماهية اكمال نطاق العقد وتأصيل دور القضاء في اكمال نطاق العقد، ونكرس ثانيهما لتوسيع نطاق العقد بتناول الالتزامات التي انشأها القضاء الفرنسي والتأصيل الفقهي للالتزامات التي وسعت من نطاق العقد، فاذا فرغنا من ذلك كله وصلناه بخاتمة نسجل فيها ابرز نتائج هذه الدراسة التي ستتخذ سبيل المقارنة والتحليل منهاجاً لها.
الباب الأول
أكمال نطاق العقد
تمهيد وتقسيم:
شهد الفكر القانوني تبايناً في مواقف النظريات التي حاولت تحديد نطاق العقد وبيان ما ينتجه من آثار سواء أكانت حقوقاً أم التزامات.
فبينما ترى نظرية سلطان الإرادة أن العقد لا يرتبمن الاثار الا ما اتجهت اليه ارادة المتعاقدين، اذ تهيمن الارادة على العقد من حيث انشائه وما يرتبه من آثار، لذا يملك الطرفان المتعاقدان كامل الحرية في تحديد نوع التزام كل منهما ومداه من خلال حريتهما في تحديد مضمون العقد باختيار البنود والشروط التي يرتضونها ولا يحد من هذه الحرية الا النظام العام والاداب العامة وما يضعه المشرع من قواعد امرة، فالمشرع يملك السيطرة على العقود حتى لاتكون اداة بيد الافراد للاخلال بالامن الاجتماعي، غير ان القواعد الامرة يجب ان تكون في نطاق ضيق وان يكون الهدف منها أساساً حماية ارادة المتعاقدين ومنع الاعتداء على حريات الاخرين وحقوقهم الطبيعية1).
وتخلص نظرية الارادة الى ان الافراد يتمتعون بحرية كاملة في تحديد نطاق العقد، ومهمة القانون الوحيدةتتمثل في ضمان المساواة بين الحريات، فكل عقد هو عادل أياً كان مضمونه، والقاضي حينما يعرض عليه نزاع عقدي تنحصر وظيفته في التحقق من كون هذا الاتفاق العقدي حراً أم لا، فاذا كان حراً فهو مطابق للقانون، ولا يهم القاضي بعد ذلك ان يكون هناك تعادلاً بين الالتزامات اذ المهم هو تعادل الحريات2).
في حين ترى المذاهب الاجتماعية3) ان القانون هو الذي يرتب اثار العقد ويحدد نطاقه، فالارادة يقتصر دورها على اختيار نوع التصرف اما تحديد مضمون هذا التصرف فهو من عمل المشرع، لان الارادة لا يقصد منها سوى اشباع حاجة معينة، فليس التصرف القانوني هو هدفها وانما هو مجرد وسيلة لتحقيق هذا الهدف، فالفرد عندما تتجه أرادته الى ابرام تصرف قانوني ما تترتب عليه اثار قانونية معينة، انما يهدف الى اشباع رغبة ما، وهذه الاثار انما تقع نتيجة اصطناع هذه الوسيلة وليس نتيجة انصراف أرادته الى التحمل بالتزامات قانونية1).
ويخلص أنصار هذه الوجهة الى ان القانون هو الذي يرتب الاثر على العقد، لأن الاخير اذا أنعقد فان اثره لا يتوقف على بقاء ارادة كل من المتعاقدين متجهة الى ترتبه هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان القانون هو الذي جعل العقد شريعة المتعاقدين باضفائه القوة الملزمة على العقد وتحديد مداها من خلال تحديد الاسباب التي تجيز للقاضي تعديل الاثار القانونية التي تترتب على العقد2).
وازاء هذا التباين بين وجهتي النظر السابقتين، انتهج غالبية الفقه3)، بحق ، منهجاً توفيقياً يجمع بين ايجابيات كلا النظريتين ، محاولاً التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع ، فكليهما تنطوي على مبالغة غير مقبولة لدور الارادة أو القانون في تحديد اثار العقد ، ومن ثم كان لابد من تحقيق موازنة موضوعية بين دور الارادة والقانون بحيث تكون الالتزامات التي ينتجها العقد حصيلة تعاون الارادة مع القانون ، ولايهم بعد ذلك ان يكون نصيب القانون اكبر من نصيب الارادة او العكس بحسب طبيعة الالتزام والتوجه الاقتصادي الذي يتبناه القانون المدني .
وقد سارت اغلب التقنينات على خطى هذا الاتجاه الفقهي، اذ نجدها جمعت بين النظريتين، صحيح ان البعض منها كالقانون المدني الفرنسي قد شُرع في فترة زمنية شهدت رواج الفلسفة الفردية ومبدأ سلطان الارادة حتى رأى البعض1) ان صدور قانون نابليون كان تجسيداً لحلم الفلسفة الليبرالية ووجدوا في المادة (1134)2) من القانون المدني الفرنسيالتي نصت على انه:((1- الاتفاقات التي تعقد على وجه شرعي تقوم مقام القانون بالنسبة الى عاقيدها 2-ولايمكن الرجوع فيها الا برضاء الطرفين او للاسباب التي يجيزها القانون)) التعبير الصادق لاعتناق المشرع الفرنسي لمبدأ سلطان الارادة.
بيد ان هذه الوجهة تغفل اموراً جوهرية، مع انها تستعصي على الاغفال، اذ لا يوجد نظام قانوني يقبل بأي اتفاق يحصل بين طرفين او يساعد في تنفيذ الالتزامات التي لا يوافق على مضمونها، وبعبارة اخرى، ان جميع النظم القانونية "تولي اهمية بالغة للظروف التي تبرم فيها العقود وتخضعها لشروط وضوابط معينة هدفها توفير الحد الادنى من الحماية للمتعاقدين انفسهم أو للغير الذي يمكن ان تتأثر مصالحه بسبب هذا التعاقد، فالتعاقد لايعني الارادة فقط، وانما يعني استخدام اداة حددها القانون"3) .
وكذا بالنسبة للقانون المدني العراقي والمدني المصري، فكلاهما لا يجعل دور الارادة ينصهر في سلطة المشرع وسلطة القاضي، اذ ما زالت الارادة تنتج من الاثار القانونية ما اتجهت الى انتاجه، ولا هما تركا الارادة تنفرد بانشاء العلاقات القانونية وبتحديد اثارها دون النظر الى المصلحة العامة والى مقتضيات العدالة4).
بيد ان هذه التقنينات قد أضفت الأهمية على دور القانون في العلاقة العقدية بحيث لم يعد عنصراً من السهل التغاضي عنه او عده ذا دور سلبي يكون فيه اسيراً لما تأمر به الارادة، بل أصبح له دور ايجابي يقوم بممارسته داخل التصرف وليس خارجه1).
وكان الدافع هو مسايرة التطورات الاقتصادية والتقنية التي يشهدها المجتمع البشري وما أفرزته من اختلال في التوازن الاقتصادي وتبعاً له التوازن العقدي خاصة في العقود ذات الطابع التقني المتطور، الامر الذي جعل المشرع مضطراً الى التدخل في حياة العقد وما يولده من اثار بهدف حماية الطرف الضعيف في العلاقة العقدية من هيمنة الطرف القوي والعمل على ايجاد التوازن العقدي بينهما بعد ان فقد التوازن الاقتصادي.
وتدخل المشرع اما ان يكون بصورة مباشرة، اذ يتولى تنظيم العقد وتحديد مضمونه بقواعد قانونية ذات طابع امر لا يجوز للافراد ان يتفقوا على ما يخالفها أو يحددوا مضمون عقودهم بما يتعارض معها من مثل عقد العمل.
وقد يباشر المشرع تدخله في تنظيم العقد بطريق غير مباشر من خلال القواعد المرنة التي تنظم بعض جوانب العقد والتي تمنح القاضي قدراً من حرية الاجتهاد اثناء نظر النزاع الذي قد يثار بمناسبة تنفيذ العقد، اذ يتدخل القاضي بموجبها من تلقاء نفسه من مثل تخفيض شرط الفائدة عندما يزيد عن النسبة المحددة قانوناً، أو بناءً على طلب من احد العاقدين من مثل تعديل الشروط التعسفية في عقود الاذعان2).
وبالنظر لاهمية الدور الذي يقوم به القاضي في تحديد مضمون العقد الى جانب ارادة المتعاقدين من خلال مساهمته الفاعلة في اكمال نطاق العقد واثراءه بالعديد من الالتزامات، وجدنا من الضروري ان نسلط الضوء على دور القاضي في تحديد نطاق العقد.
ومن اجل تحقيق مرامي البحث سنقسم هذا الباب على فصلين: نفرد أولهما لماهية اكمال نطاق العقد ونخصص ثانيهما لتأصيل دور القضاء في اكمال نطاق العقد.
الفصل الأول
ماهية اكمال نطاق العقد
تمهيد وتقسيم:
يسعى الاتجاه التشريعي المعاصر الى منح القاضي قدراً من السلطة التقديرية عند تطبيق النص القانوني استجابة لمتطلبات عديدة، لعل من ابرزها قصور النصوص القانونية عن استيعاب كافة الفروض، وجمود التشريع وعدم كفايته لتنظيم كل ما ينشأ داخل المجتمع من روابط وعلاقات، في محاولةلتطوير الدور الايجابي للقاضي حتى لا يظل مجرد الة صماء لتطبيق النصوص القانونية.
اما فكرة تضييق الخناق على القضاء وحصر وظيفته في مجرد التطبيق الالي للنص، والتي كانت سائدة في فرنسا، فلم تعد قائمة، ذلك ان روح العداء للقضاء كانت نتيجة لاعتبارات تاريخية معينة لم يعد لها وجود، ولم يعد ثمة مبرر لاستصحاب المعاني المتشددة التي أملتها، اذ مما لاشك فيه انه لولا الجهود الفائقة التي بذلها القضاء ومحاولة الموائمة بين التشريعات القائمة وبين مقتضيات التطور السريع والمعقد للحياة الاجتماعية لأصيب التشريع بالعجز والجمود .
وبنظرة متفحصة للقانون المدني الفرنسي يتجلى لنا عظم الدور الذي قام به القضاء باعتناقه للكثير من النظريات والمبادئ التي اثرت هذا القانون وجعلته قادراً على مواكبة التطورات التي شهدها المجتمع الفرنسي، ولعل نظرية العقد والمسؤولية التقصيريةوما ادخله القضاء عليهما من مباديء وافكار خير شاهد على الدور الانشائي للقضاء الفرنسي في اثراء التشريع.
من هنا، نجد ان التشريعات قد تضمنت العديد من النصوص التي تفّعل الدور الايجابي للقاضي، فالمشرع "يضع الاطار العام للحكم ثم يترك للقاضي تحديده وفقاً لما تقتضيه طبيعة الحالة المعروضة امامه، ولما يمليه عليه ضميره وحسه القانوني"1).
واذا يممنا وجهنا نحو نظرية العقد يتجلى لنا الدور الايجابي للقاضي بشكل واضح سواء في مرحلة انشاء العقد او في مرحلة تنفيذه، اذ تعددت السلطات الممنوحة له: من مثل سلطته في انقاص التزامات الطرف المغبون2)، وانتقاص العقد اذا كان في شق منه باطلاً3)، وتحول العقد اذا توافرت فيه اركان عقد اخر وتبين ان نية الطرفين كانت تنصرف الى ابرام هذا العقد 4) ، ورد الالتزام المرهق الى الحد المعقول اذا ما طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها5). ولعل الميدان الاوسع الذي يتجسد فيه الدور الايجابي للقاضي هو نطاق العقد، وعلى وجه الخصوص دوره في اكمال نطاق العقد.
ومن أجل ان نحدد معالم هذا الموضوع بشكل أوضح سنقسم هذا الفصل على مبحثين: نخصص اولهما لمفهوم اكمال نطاق العقد، ونفرد ثانيهما لصور اكمال نطاق العقد
المبحث الأول
مفهوم اكمال نطاق العقد
يقوم مفهوم اكمال نطاق العقد على فكرة مقتضاها ان الالتزامات التي انتجها العقد لم تكن كاملة ويشوبها النقص، فيعمد القاضي لسد هذا النقصباضافة بعض الالتزامات الى مضمون العقد الأصلي.
بيد ان سلطة القاضي في اكمال نطاق العقد على النحو المتقدم قد تختلط بغيرها من سلطاته التي قد تؤدي في الاخير الى التأثير في ما يولده العقد من التزامات من مثل سلطته في تفسير العقد.
من هنا سنحاول ان نرسم خطاً فاصلاً بين اكمالنطاق العقد وبين ما يشتبه به.
لذا سنقسم هذا المبحث على مطلبين: نبحث في اولهما تعريف اكمال نطاق العقد، ونكرس ثانيهما لتمييز اكمال نطاق العقد مما يشتبه به.
المطلب الأول
تعريف اكمال نطاق العقد
الأصل ان المتعاقدين حينما يتفقان على أبرام العقد يضعان تنظيماً لكل المسائل التي ينظمها هذا العقد ويحددان مضمونه ببيان ما ينشأ عنه من أثار سواء كانت حقوقاً او التزامات في حدود ما يرسمه القانون.
بيد ان المتعاقدين قد يغفلان تنظيم بعض المسائل التفصيلية التي قد تنشأ من العقد، لانها لم ترد بذهنهما او لأنهما لم يتوقعاها، ذلك ان تنظيم كل المسائل التفصيلية يتطلب درجة عالية من الدقة بموضوع العقد، وهذا ما يفوق قدرة المتعاقدين في كثير من الاحوال، وخاصة مع السرعة في انجاز المعاملات وابرام العقود حيث يتم التركيز على المسائل الجوهرية في العقد دون غيرها.
من هنا، فان العقد قد لا ينظم بعض المسائل الجزئية أو قد لايتناول بعض أوجه العلاقة بين الطرفين، وهذا مما لا يؤثر على صحة العقد لان المشرع أجاز انعقاد العقد بالاتفاق على المسائل الجوهرية فقط، لكننا سنكون ازاء عقد غير كامل لانه لم يضع تنظيماً لكافة المسائل التي لابد من مواجهتها ، ومن ثم يكون بحاجة للأكمال.
كما ان العقد قد يكون بحاجة الى الاكمال اذا كان لا يتضمن الالتزامات التي بدونها لا يتحقق الغرض المقصود منه، او التي بدونها يتعذر على أحدالمتعاقدين تنفيذ التزامه، ذلك ان كل عقد يحتوي على التزامات تبعية تلزم المتعاقدين حتى وان لم تنصرف اليها أرادتاهما، حتى لا يكون العقد مصدراً لمظالم لايمكن التسامح فيها، وحتى يكون تنفيذه متفقاً مع ضرورات حسن النية.
من هنا، فان اكمال العقد هو وسيلة لمعالجة النقص الذي يشوب مضمون العقد، ويتحقق ذلك باضافة بعض الالتزامات الى مضمونه الاصلي لتنظيم المسائل التفصيلية التي تركها المتعاقدان، او ليكون تنفيذ العقد متفقاً مع مبدأ حسن النية وما يقتضيه من امانة في التعامل.
وقد اناط المشرع سلطة اكمال العقد وسّد النقص الذي يعتريه بالقاضي وأصبحت من ضمن السلطات التي يتمتع بها ازاء مضمون العقد الى جانب سلطته في تفسير العقد وتكييفه، والحقيقة ان هناك ترابطاًوثيقاً بين هذه السلطات الثلاث، فتحديد مضمون العقد يقتضي ان يقوم القاضي بالتعرف على الارادة المشتركة للمتعاقدين سواء عن طريق عبارات العقد اذا كانت واضحة الدلالة على مضمون هذه الارادة أو عن طريق تفسير عباراته اذا كانت غير واضحة، ومن ثم يقوم باعطاء التكييف القانوني الصحيح للعقد حتى يستطيع ان يرسم صورة واضحة لما ينشأ عنه من حقوق وما يولده من التزامات.
من هنا، يمكن تعريف اكمال نطاق العقد بأنه:(( قيام القاضي بإضافة التزامات إلى مضمون العقد الأصلي على وفق المعايير التي وضعها المشرع )).
واسناد هذه السلطة للقاضي يأتي في اطار تعزيز دوره الايجابي واخراجه من دائرة السكون المتمثلة بالتطبيق الحرفي للنص الى دائرة الفعالية والتأثير في ظروف تطبيق هذا النص، وقد تجسد ذلك بعدول المشرع عن المعايير الجامدة التي كان من شأنها سلب القاضي الكثير من حرية التقدير الى المعايير المرنة التي تتسع معها سلطة القاضي في تكييف ظروف كل واقعة واختيار الحل الأمثل لها.
فالقاعدة القانونية المرنة تمنح القاضي سلطة تقديرية في تطبيق النص القانوني بشكل يواكب مقتضيات التطور ويحفز القاضي على ممارسة نشاط ذهني في فهم الواقع المعروض عليه والموائمة بينه وبين النص القانوني الذي يروم تطبيقه.
ولعل القراءة المتمعنة لنص (م86/2) و(م150/2) من تقنينا المدني واللتين تعطيان للقاضي صلاحية اكمال نطاق العقد، تكشف لنا مدى المرونة التي صيغت بها نصوص هاتين المادتين لتعطي للقاضي دوراً في التأثير على مضمون العقد باضافة التزامات جديدة يكمل بها القاضي نطاق العقد الذي يشوبه النقص.
من هنا، فقد أصبحت عملية اكمال العقد وسيلة يستطيع من خلالها القاضي التدخل في تحديد الالتزامات التي ينتجها العقد، والذي صار بفعل هذا التدخل ينتج التزامات ابعد ما تكون عن الالتزامات التي أرادها الطرفان، وحجة القاضي في هذا التدخل هو اعادة التوازن العقدي بين المتعاقدين.
ولعل عدم تقييد القاضي بالرجوع الى ارادة المتعاقدين عند اكمال نطاق العقد وإرجاعه الى معيار موضوعي هو طبيعة العقد عند اضافة الالتزامات الناقصة الى مضمون العقد قد فتح مجالاً رحباً امام الاجتهاد القضائي لإضافة الالتزامات التي تحقق العدالة بين العاقدين وتعيد التوازن العقدي الذي فقد بينهما بسبب الخلل في التوازن المعرفي والاقتصادي من جراء عوامل التطور المتسارعة في هذين المجالين هذا من جهة.
ومن جهة اخرى ان قيام القاضي باكمال نطاق العقد لا يتوقف على طلب من أحد العاقدين، وانما يستطيع القاضي ان يضيف الالتزامات الناقصة الى مضمون العقد من تلقاء نفسه وذلك بمناسبة أي نزاع عقدي يعرض امامه.
ولعل المادة (150/2) من القانون المدني العراقي تشير الى المعاني المتقدمة اذ نصت على انه:(( ولا يقتصر العقد على الزام المتعاقد بما ورد فيه، ولكن يتناول ايضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام)).
المطلب الثاني
تمييز اكمال نطاق العقد مما يشتبه به
أن اكمال نطاق العقد قد يشتبه بانظمة قانونية أخرى تعطي للقاضي سلطة التأثير في مضمون العقد او في عنصر من عناصره، من مثل سلطته في تفسير العقد وتحليل عباراته للوصول الى المعاني التي قصدها المتعاقدان وبيان ما ينتجه العقد من التزامات، او سلطته في تعديل العقد للوصول الى تحقيق التوازن العقدي بين المتعاقدين، او سلطته في تصحيح العقد باضافة عنصر جديد للعقد ينقله من دائرة البطلان الى دائرة الصحة، او انتقاص عنصر يهدد العقد بالبطلان لتستقر له الصحة والفعالية، وهذا التشابه يحملنا على محاولة رسم خط فاصل للتمييز بينه وبين كل منها للتعرف على جوهر حقيقته، لذا سنقسم هذا المطلب على ثلاثة فروع: نبحث في الاول تمييز اكمال نطاق العقد من تفسيره، ونخصص الثاني لتمييز اكمال نطاق العقد من تعديله، ونكرس الثالث لتمييز اكمال نطاق العقد من تصحيحه.
الفرع الأول
تمييز اكمال نطاق العقد من تفسيره
يهدف التفسير الى تحديد معنى النصوص الواردة في العقد وبيان مدلولها، من هنا فان تفسير العقد هو بيان حقيقة ما قصدته الارادة المشتركة للمتعاقدين لتحديد مضمون العقد وما يولده من التزامات.
ولا تظهر الحاجة الى تفسير العقد اذا كانت عباراته واضحة في دلالتها مطابقة لما اتجهت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين، فحينئذٍ يكون العقد ملزماً لهما بما أفصحت عنه عباراته، لان المنطق يقضي بالاخذ بالمعنى الذي تعبر عنه عبارة العقد الواضحة بوصفه المعنى الذي اتجهت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، فاذا تبين للقاضي ان هذا المعنى غير متفق مع قصد المتعاقدين كان له الانحراف من المعنى الظاهر الى غيره.
من هنا، فان التفسير تظهر اهميته اذا كانت عبارات العقد يشوبها الغموض مما يجعل معناها غير واضح، أو انها تحتمل اكثر من معنى، او ان عبارة العقد واضحة ولكن هناك ما يشير الى ان المقصود بها معنى اخر غير معناها الظاهر، فيعمد القاضي الى تفسير العقد لكي يتوصل الى ما قصدهالطرفان، أي الكشف عن الارادة المشتركة للمتعاقدين التي تتحدد بها الالتزامات الناشئة من العقد3).
والسؤال الذي يثار هنا، أين يجد القاضي النية المشتركة للمتعاقدين؟
يتجه الرأي الغالب في الفقه والقضاء الى ان النية المشتركة التي تكون محلاً للتفسير هي الارادة الظاهرة التي توافق عليها المتعاقدان ويتجسد مظهرها الخارجي في التعبير عن ارادتيهما، لانالمفروض ان تكشف الارادة الظاهرة عن الارادة الباطنة، ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك.1)
وللكشف عن قصد المتعاقدين او التعرف على حقيقة المقصود من عبارات العقد يستعين القاضي بنوعين من الوسائل: أولهما الوسائل الداخلية وتكون بالرجوع الى عبارات العقد ذاته واستخدام مجموعة من القواعد الفقهية التي تساعد في استخلاص الارادة المشتركة للمتعاقدين من عبارات العقد2).
وثانيهما الوسائل الخارجية وتعني الاستعانة بعوامل خارجة عن العقد من مثل العرف أو طبيعة المعاملة للوصول إلى بيان ما ينتجه العقد من حقوق وما يولده من التزامات. 1)
ويرى البعض من الفقه ان التفسير لا يقتصر على المعنى الضيق الذي يقتصر على تفسير عبارات العقد الغامضة، بل يتعداه الى معنى واسع يقوم على تنظيم المسائل الفرعية التي تركها المتعاقدان،ذلك ان ترك هذه المسائل دون تنظيم يعد نوعاً من الغموض الذي يحتاج الى تفسير بالبحث عما تهدف اليه ارادة المتعاقدين، لان أساس التفسير هو الوقوف على ما قصدته إرادة المتعاقدين ويستوي في ذلك ان تكون هذه الإرادة صريحة او ضمنية، فسواء فسر القاضي اللفظ الغامض أو أكمل نقصاً في العقد، فعمله هذا يعد تفسيراً للعقد.
ولئن التقى اكمال العقد بتفسيره في أن كلاً منهما يرد على العقد الصحيح الذي استوفى اركانه وشروطه، وانهما من السلطات التي يتمتع بها القاضي والتي تكون وظيفتها تحديد مضمون العقد وبيان ما ينشأ عنه من التزامات.
بيد اننا نعتقد انهما يختلفان في أمور جوهرية لعل من ابرزها ان التفسير تبرز أهميته اذا كانت عبارات العقد غامضة وتحتاج الى استجلاء معناها، اما الاكمال فيقوم به القاضي اذا كان مضمون العقد يشوبه النقص بان ترك المتعاقدان بعض المسائل دون تنظيم، أولم يشر العقد الى الالتزامات التي يتعذر على احدهما أو كلاهما تنفيذ التزامه بدونها1)،فتفسير العقد يفترض وجود تعبير غامض لا يفصح عما قصده المتعاقدان،لذا يشرع القاضي بالبحث عما اتجهت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين لاستجلاء المعنى الذي يرومان الوصول اليه ،اما اكمال العقد فيفترض وجود نقص في تنظيم العقد يعمل القاضي على تكملته بان يضيف الى النية المشتركة ما لم تتناوله-سهواً او عمداً- ولكنه يعد من مستلزماتها.2)
من هنا، فان الحل الذي يتوصل اليه القاضي من التفسير يكون كامناً في العقد نفسه، ولكن كانيكتنفه الغموض، ويتوصل القاضي للكشف عنه مستعيناً بقواعد التفسير، لذا فان الالتزام الذي يتقرر وجوده في العقد من طريق التفسير يمكن رده الى لفظ او جملة في العقد3).
اما اكمال العقد فانه لايقتصر على ما قصد اليه المتعاقدان، بل يجاوز ذلك الى ما يترتب على العقد من التزامات تفرضها طبيعته ولو لم يتفق عليها المتعاقدان صراحة او ضمناً، فاكمال العقد يعني اضافة التزامات لايمكن ردها الى نصوص العقد، بل تضاف استناداً الى عوامل خارجية عن العقد نفسه.1)
فالقاضي حينما يكمل نطاق العقد لا يبحث فيما يريده المتعاقدان لو أنهم واجهوا المسالة المتروكة حتى ينشغل بالبحث عن ارادتهما المشتركة، وانماسيسد النقص في مضمون العقد اعتماداً على طبيعة الالتزام بحسب ما ترشد اليه موجهات موضوعية هي القانون والعرف والعدالة.
واخيراً فان قيام القاضي باستكمال العقد يعد من المسائل القانونية التي يخضع فيها لرقابة محكمة التمييز، بينما سلطته في تفسير العقد تعد من مسائل الواقع التي لا رقابة لمحكمة التمييز عليها.2)
الفرع الثاني
تمييز اكمال نطاق العقد من تعديله
الاصل ان العقد شريعة المتعاقدين، بمعنى انه قانون خاص بطرفيه وما يولده من التزامات يكون ملزماً لهما وكأن المشرع هو الذي انشأها ، فلا يملك أي من المتعاقدين ان يتنصل مما التزم به ولا ان يغيّر فيه بارادته المنفردة .
واحترام القوة الملزمة للعقد لا يقتصر على المتعاقدين، وإنما يشمل المشرع والقاضي معاً، فلا يجوز لهما ان يتدخلا في مضمون العقد بالتغيير والتعديل.
بيد ان هذه القاعدة ليست مطلقة اذ يرد عليها بعض الاستثناءات، فيجوز للمتعاقدين ان يتفقا على نقض العقد أو تعديله، فطالما ان العقد قد نشأ بارادتين متطابقتين، فمن الممكن تعديله أو نقضه باتفاق هاتين الارادتين3).
كما ان المشرع قد أجاز لأحد المتعاقدين، فيحالات معينة، ان ينهي العقد بارادته المنفردة من مثل حق الموكل في انهاء عقد الوكالة 1)، وحق المودع في انهاء عقد الوديعة 2) ،وحق الواهب في الرجوع عن الهبة عند عدم وجود المانع3).
أضف الى ذلك، أن العقد اذا كان يستند في أساسه الى فكرة العدل والى قوة القانون، فانه يخضع في حياته لتأثير فكرة العدل وتطور اهداف وغايات القانون4).
فالعقد بوصفه من اهم الوسائل القانونية للتعامل بين الافراد، ينبغي ان يكون له دور اجتماعي واخلاقي حتى يكون قادراً على تحقيق الهدف الاسمى للقانون وهو العدل، من هنا فان القانون ومن منطلق حرصه على ضمان قدر متزايد من العدالة بين المتعاقدين يتدخل في بعض الاحيان محدثاً تعديلات جوهرية في طائفة معينة من العقود من مثل عقد الايجار، فالاصل ان تتحدد مدة العقد باتفاق المتعاقدين، ولكن المشرع يتدخل بنص يقضي بعدم انقضاء العقد بانتهاء المدة المتفق عليها، بل يمتد الى مدة غير محددة وهو ما يسمى بالامتداد القانوني، فالتعديل هنا يتعلق بمدة العقد المتفق عليها5).
وقد يخول المشرع سلطة تعديل العقد للقاضي إذا ما توافرت ظروف معينة تجعل من هذا التعديل ضرورياً لتحقيق الموائمة بين الشروط العقدية وبين اعتبارات العدالة وبما يعيد التوازن العقدي بين المتعاقدين، فقد يحدث ان يختل التوازن العقدي لحظة ابرام العقد، والمثل على ذلك عقد الاذعان1)، او يكون الخلل راجعاً الى ظروف لاحقة على ابرام العقد ويكون من شأنها احداث خلل في التوازن الاقتصادي للعقد ، ويكون تدخل القاضي لاجراء الموائمة بين العقد وبين الظروف الاقتصادية الطارئة 2)، وقد يرجع الخلل الى شرط عقدي يظهر إجحافه عند تنفيذ العقد من مثل الشرط الجزائي3) .
ولئن التقت سلطة القاضي في اكمال نطاق العقد مع سلطته في تعديله في انهما يردان على عقد صحيح ويهدفان الى تحقيق الموازنة بين المتعاقدين، الا أنهما يختلفان في امور عديدة لعل من ابرزها ان القاضي حينما يقوم باكمال العقد يهدف الى الوصول بارادة المتعاقدين الى غايتها عن طريق اضافة بعض الالتزامات الى اصل العقد، بينما التعديل يكون في الاصل موجهاً ضد الارادة تحقيقاً لهدف سامٍ يسعى اليه المشرع وهو العدل ورفع الظلم والحيف الذي لحق بأحد المتعاقدين نتيجة غبن لحقه اثناء أبرام العقد أو اثناء تنفيذه، لذا لا يجوز للقاضي تعديل العقد الا في الحالات المحددة التي نص عليها المشرع. 4)
نخلص من ذلك، ان عمل القاضي عند اكمال نطاق العقد يؤدي الى اضافة التزامات جديدة الى مضمون العقد الذي يشوبه النقص لتنظيم المسائل التي لم يشر لها المتعاقدان، على وفق طبيعة الالتزام بحسب القانون والعرف والعدالة، اما قيام القاضي بتعديل العقد في الحالات التي اجاز له المشرع ذلك، فيؤدي الى الانتقاص من التزامات احد المتعاقدين لاعادة التوازن العقدي الذي قد اختل عند ابرام العقد بسبب ما يملكه احد الطرفين من تفوق اقتصادي او تقني يمكنه من فرض شروط تعسفية على المتعاقد الاخر، او ان التوازن العقدي كان متوافراً لحظة ابرام العقد ولكنه فقد فيما بعد نتيجة ظروف استثنائية استجدت لاحقاً، فيعمد القاضي الى اعادة النظر في التزامات الطرف المغبون وبما يعيد التوازن العقدي بين العاقدين.
الفرع الثالث
تمييز اكمال نطاق العقد من تصحيحه
يسعى المشرع الى التقليل من حالات بطلان العقود والحد من أثارها لما يترتب على ذلك من نتائج سيئة تتمثل في زعزعة الثقة المشروعة واستقرار التعامل بين الافراد، لذا نجده يحاول وبشكل دوؤب لتفادي حالات البطلان وتصحيح العقود كلما امكن ذلك، وقد تجسد ذلك باعتناقه للنظريات التي تساهم في تحقيق هذا الهدف من مثل نظرية تحول العقد1)ونظرية تصحيح العقد.
فالتصحيح هو احدى الوسائل لتفادي الحكم ببطلان العقد وله صور متعددة:
فقد يتم التصحيح بتغيير عنصر من عناصر العقد، فاذا كان الاخير معيباً بما يهدده بالبطلان فمن الممكن تصحيحه باستبدال العنصر المعيب بعنصر اخر جديد يؤدي قانوناً الى جعله صحيحاً2).
فمن يشتري شيئاً معتقداً خطأً ان له قيمة اثرية يكون قد وقع في غلط يعطيه الحق في نقض العقد، غير ان مدعي الغلط يبقى ملزماً بالعقد اذا ما اظهر الطرف الاخر استعداده لتنفيذ هذا العقد، بان عرض تسليم الشيء الذي انصرفت اليه نية مدعي الغلط3)، وفي الاستغلال يجوز في عقود المعاوضة ان يتوقى الطرف المستغل دعوى الابطال اذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن ، فعرض ما يكفي لرفع الغبن هو ادخال عنصر جديد في العقد يؤدي الى تصحيحه1)،وكذا الحال في تكملة الثمن الى اربعة اخماس ثمن المثل في بيع العقار المملوك لناقص الاهلية اذا كان في البيع غبن يزيد على الخمس،ويعد تصحيحاً لعقد القسمة اكمال نصيب المتقاسم المغبون ما نقص من حصته اذا لحقه غبن يزيد على الخمس.
فتصحيح العقد على وفق الصورة السابقة هو تغيير عنصر من عناصر العقد المعيبة بعنصر جديد ينقله من دائرة البطلان الى دائرة الصحة والنفاذ.
وقد يتم تصحيح العقد بانتقاص الجزء المعيب منه، فاذا كان العقد يحتوي على شقٍ باطل واخر صحيح، فمن الممكن تصحيحه بازالة الشق الباطل اذ تستقر الصحة في الشق الصحيح من مثل تخفيض الفوائد الاتفاقية الى 7% 4)،وتخفيض الاجل الاتفاقي للبقاء في الشيوع الى خمس سنوات.
ويلاحظ ان التصحيح في الحالتين السابقتين كان اجبارياً لانه تم بمقتضى نص القانون لا بارادة المتعاقد.
والفرق بين الصورتين السابقتين، ان التصحيح المترتب على انتقاص التصرف يتم بازالة الشق المعيب، فهو يتقرر نتيجة اسقاط جزء من التصرف القانوني، في حين ان التصحيح بازالة العيب يستلزم اضافة عنصر جديد للتصرف القانوني وليس اقتطاعاً منه، اضافة يترتب عليها اكتساب التصرف للصحة والفعالية بعد ان كان يفتقدها، بعكس ما يحصل في التصحيح بالانتقاص اذ يكون التصرف صحيحاً منذ البداية في شق منه ومعيب في شق اخر، ويترتب على الانقاص استقرار الصحة للشق الصحيح مقابل اقتطاع الشق المعيب.
نخلص من ذلك، ان التصحيح هو مزيج من تصرف ارادي وعمل مادي يصدر من الطرف الذي لم يتقرر بطلان التصرف القانوني لصالحه وله اثر رجعي كالاجازة، اذ يعد التصرف المصحح صحيحاً من وقت نشوئه لا من وقت تصحيحه.
ولئن التقى اكمال العقد بتصحيحه في انهما يؤديان الى اضافة شيء جديد للعقد، الا انهما يختلفان في امور جوهرية لعل من ابرزها ان الاكمال يرد على العقد الصحيح في حين ان التصحيح يرد على العقد الباطل او المهدد بالبطلان حيث يتم استبدال العنصر المعيب بعنصر جديد يكتسب على اثره العقد الصحة والفاعلية بعد ان كان يفتقدها، او يتم ازالة الشق الباطل لتستقر الصحة في الشق الصحيح اذا كان العقد يتضمن جزءاً معيباً واخر صحيحاً.
هذا فضلاً عن ان اكمال العقد يستند الى طبيعة العقد، اذ يقوم القاضي باضافة الالتزامات التي تقتضيها طبيعة العقد الذي يشوب مضمونه النقص على وفق القانون او العرف او العدالة، اما التصحيح فيستند اما الى أرادة المتعاقدين أو الى نص القانون، فهو مزيج من تصرف ارادي وعمل مادي يصدر من الطرف الذي لم يتقرر بطلان العقد لصالحه، لذا فان تصحيح التصرف القانوني لا يعدعملاً قضائياً صرفاً، اذ يمكن للمتعاقدين ان يصححا العقد ومن دون حاجة الى اللجوء للقضاء، على عكس اكمال نطاق العقد الذي يعد من السلطات التي يتمتع بها القاضي ازاء مضمون العقد الذي يشوبه النقص.
واخيراً فان التصحيح هو وسيلة لتفادي بطلان العقد بينما الإكمال هو وسيلة لتحديد نطاق العقد الصحيح ببيان ما ينتجه من حقوق وما يولده من التزامات.
المبحث الثاني
صور اكمال نطاق العقد
من استقراء النصوص المدنية نلاحظ أن المشرع العراقي والمقارن قد حدد صورتين يستطيع من خلالها القاضي التدخل لاكمال نطاق العقد، الصورة الأولى هي ما نصت عليها ( م86/ف2)2) ، والثانية ما نصت عليها (م150/ف2)3) من القانون المدني العراقي ، وسنبحث كلاً من هاتين الصورتين في مطلب مستقل.
المطلب الاول
اكمال نطاق العقد اعمالاً لنص (م86/ف2)
لكي ينعقد العقد يجب أن يكون القبول مطابقاً للايجاب مطابقة تامة في المسائل التي تناولها الايجاب سواء أكانت مسائل جوهرية ام مسائل ثانوية، فلا يكفي لانعقاد العقد أن يأتي القبول مطابقاً للايجاب في المسائل الجوهرية فقط، وانما يتعيّن ان يطابقه في كافة المسائل التي يتضمنها اياً كانت درجة أهميتها، فرفض أي مسألة ثانوية وردت في الايجاب لا يؤدي الى انعقاد العقد لأن التطابق بين الايجاب والقبول لم يتحقق1).
غير انه ينبغي ان لا يفهم مما تقدم أن ابرام العقد يستلزم ضرورة الاتفاق على جميع المسائل، اذ يكفي لانعقاد العقد تطابق الايجاب والقبول بشأن المسائل الجوهرية فقط طالما أقتصر الايجاب على ذلك، ولا غرابة في هذا، لان الذي يحدث في الغالب ان الموجب يقتصر في ايجابه على المسائل الجوهرية فقط تاركاً ما عداها سواء عمداً أو اهمالاً، ولا يتصور ان نلزم الافراد بأن تكون عقودهم متضمنة تنظيماً لجميع المسائل التي يمكن ان تثار بشأن العقد المبرم بينهم نظراً لما في ذلك من مشقة قد تحول بينهم وبين ابرام التصرفات القانونية2).
من هنا، فان الاكتفاء بالاتفاق على المسائل الجوهرية لانعقاد العقد وعدم استلزام الاتفاق على المسائل التفصيلية يعد أمراً طبيعياً يفرضه الواقع العملي ويستفاد ضمنياً من قيام المشرع بوضع قواعد تفصيلية لتنظيم العقود المختلفة، فالعقد ينعقد بمجرد صدور القبول المطابق للايجاب في جميع جزئياته، وبصرف النظر عما اذا كان هذا الايجاب قد أقتصر على العناصر الجوهرية ام شمل بالاضافة اليها المسائل التفصيلية1).
ولكن قد يحدث في بعض الاحيان ان يتفق المتعاقدان على جميع المسائل الجوهرية في العقد، ولكنهما مع ذلك لايتمكنان من الاتفاق على بعض المسائل التفصيلية او الثانوية، فيقرران أرجاء الاتفاق بشأنها لوقت لاحق.
وهنا يثار السؤال التالي: هل يعد العقد قد انعقد أم لا؟ واذا أنعقد فما هو الحل اذا لم يتوصل المتعاقدان الى اتفاق بشأن هذه المسائل المؤجلة ؟
أجابت على هذين السؤالين (م86/ف2) وسنعرض لهما كلاً في فرع مستقل.
الفرع الاول
شروط انعقاد العقد في ضوء أحكام المادة (86/ف2)
تنص (م86/ف2) من القانون المدني العراقي على انه: (( واذا أتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا أن العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل فيعتبر العقد قد تم .....)).
نستنتج من النص المتقدم أن هناك ثلاثة شروط يجب توافرها للقول بأن العقد قد أنعقد وهي:
أولاً: أتفاق الطرفين على جميع المسائل الجوهرية في العقد
يستلزم انعقاد العقد الاتفاق على المسائل الجوهرية، لانها هي التي تحدد ماهية العقد الذي يقصده الطرفان، كما تحدد المقابل الذي يلتزم به كل طرف قبل الاخر، من هنا فان كل اتفاق بين الطرفين لا يشمل العناصر الجوهرية لا يؤدي الى ابرام العقد.
ولكن ماهي المسائل الجوهرية التي يجب ان يتفق عليها المتعاقدان ؟
نشب خلاف في الفقه حول معيار تمييز المسائل الجوهرية من المسائل الثانوية، فظهرت وجهات متعددة:
فعلى وفق المعيار الشخصي يتم تمييز المسائل الجوهرية من المسائل الثانوية بالاستناد الى ارادة احد المتعاقدين أو ارادتيهما معاً، بحيث تعد المسألة جوهرية اذا كانت الارادة قد أضفت عليها هذه الصفة، من هنا فان بامكان كل طرف ان يعد مسألة او اكثر من مسائل العقد ذات الصفة الثانوية من المسائل الجوهرية بالنسبة له، بحيث يتوقف رضاؤه بالعقد عليها، كما ان المتعاقدين يستطيعانمعاً ان يضفيا صفة الجوهرية على مسألة ما من مسائل العقد ويعلقا عليها انعقاده، لذا فان أي مسألة ثانوية في العقد يمكن ان تتحول الى مسألة جوهرية بطريقة أرادية1).
فقد يكون جوهرياً بالنسبة للبائع او للمشتري او لهما معاً ان يتم التسليم في مكان معين او في زمان معين او ان يتم الوفاء بالثمن بطريقة معينة او في وقت محدد.
وحري بالذكر بعد هذا، ان المعيار الشخصي لا يمنع من اعتبار المسألة جوهرية وان كانت في ذاتها قليلة الاهمية أو أن الخلاف اذا نشأ بشأنها لا يؤثرفي امكان تنفيذ العقد لان القاضي يستطيع حسمها وبسهولة، او لان هناك قاعدة قانونية تحكمها، ما دامت ارادة احد المتعاقدين او كليهما قد اتجهت الى اعتبارها جوهرية، من مثل ان يكون في اعتبار البائع ان التسليم لايتم الا بعد اجل معين، كما لا يشترط في المسألة الثانوية التي تتحول الى مسألة جوهرية ان تكون احد عناصر تكوين العقد او تنفيذه، من هنا فقد تكون المسألة خارجة عن العقد ولكن احد المتعاقدين يتمسك بها ويعلن للطرف الاخر ان رضاءه بالتعاقد معلق عليها2).
بيد ان البعض من انصار هذه الوجهة قيّد من أطلاق المعيار الشخصي وذلك بان ربط بين الارادة المشتركة للمتعاقدين المحتملين والمسائل الجوهرية في العقد،فلا يصح الركون الى ارادة احدهما لتمييز المسائل الجوهرية من المسائل الثانوية، بل لابد ان نستند الى الارادة المشتركة لهذين المتعاقدين، والتي يتم الكشف عنها بطرق متعددة: من مثل المسلك السابق لهما في معاملات سابقة او من خلال الظروف التي احاطت بابرام العقد او من خلال البحث فيما اذا كانت المسألة محل النقاش لم يكن ليبرم العقد الا اذا تم الاتفاق بشأنها3).
وقد أخذ بالرأي الاخير القانون المدني الكويتي فقد نصت (م52/ف1) على انه: (( اذا اتفق المتعاقدان على جميع المسائل الجوهرية في العقد، وعلقا اموراً ثانوية على امل اتفاقهما عليها مستقبلاً، فان ذلك لا يمنع من انعقاد العقد، مالم يظهر ان ارادتهما المشتركة قد انصرفت الى غير ذلك )).
ويذهب غالبية الفقه لاعتناق المعيار الموضوعي الذي يستند الى طبيعة العقد وماهيته لتمييز المسائل الجوهرية من المسائل الثانوية.
ويقوم المعيار الموضوعي على اساس تحليل المسائل المميزة لانواع العقود بهدف التوصل الى تحديد ما يميّز نوع العقد المراد أبرامه من بين انواع العقود المختلفة، واعتبارها بمكانة المسائل الجوهرية لهذا العقد، ذلك ان لكل عقد غرضاً اقتصادياً يسعى الى تحقيقه فتكون الالتزامات المحققة لهذا الهدف بمكانة المسائل الجوهرية لهذا العقد، فمن يتعاقد مع اخر يجب ان يعرف على وجه الدقة ما الذي يريده هو وما الذي يريده الطرف الاخر بمقتضى هذا العقد.
فالمسائل الجوهرية لأي عقد والتي يتعيّن الاتفاق عليها لقيام هذا العقد هي المحال التي ترد عليها الالتزامات المحققة لهدفه الاقتصادي دون غيرها من الالتزامات، ففي عقد البيع يشكل المبيع والثمن مسائله الجوهرية التي ينبغي الاتفاق عليها حتى ينعقد العقد، وفي عقد الايجار يجب الاتفاق على العين المؤجرة والاجرة والمدة، وفي عقد المقاولة يتعهد المقاول بان يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء اجر يتعهد به صاحب العمل ، لذا فان مسائله الجوهرية هي العمل الذي يلتزم به المقاول والاجر الذي يلتزم به صاحب العمل1).
بيد ان صعوبة تطبيق المعيار الموضوعي تظهر في العقود غير المسماة التي لا تخضع لتنظيم تشريعي محدد وذلك بسبب ارتباطها بتطور الحياة الاقتصادية التي تؤدي الى تطور حاجات المتعاملين وتعددها باستمرار مما يستلزم صيغاً جديدة لمواجهتها، وبمبدأ الحرية التعاقدية الذي يتيح للمتعاملين صياغة عقودهم بما يلبي حاجاتهم العملية في حدود النظام العام والاداب العامة دون التقيّد بالقوالب الجاهزة2).
ومع ذلك فان القاضي يستطيع ان يحدد المسائل الجوهرية من خلال ما تبينه القواعد القانونية العامة وبالنظر للهدف الاقتصادي الذي قصد المتعاقدان تحقيقه من وراء ابرام العقد وذلك بتحديد الالتزامات اللازمة لتحقيق هذا الهدف وعندئذٍ تكون هذه الاخيرة مسائل العقد الجوهرية، فمثلاً في عقود المعاوضة يكون المقابل هو الالتزام المهم في العلاقة العقدية بوصفه هدفاً لكلا الطرفين، ومن ثم يكون هذا الاخير مسألة جوهرية في العقد، واذا كان العقد يرد على خدمة فان مضمون هذه الخدمة يعد مسألة جوهرية يجب الاتفاق عليها3) .
كما ان طبيعة العقد وماهيته والظروف المصاحبة لابرامه تساهم الى حد كبير في تعيين المسائل الجوهرية والمسائل الثانوية4).
ويرى بعض الشراح1)، بما يحظى بمساندة القضاء في فرنسا2) ، وهو ما نؤيده،الى ان المعيار الموضوعي يميّز بشكل واضح المسائل الجوهرية من المسائل الثانوية ، الا انه لابد من تكميله بالمعيار الشخصي ، ذلك ان الاخير يقدم تفسيراً واضحاً لحالة عدم انعقاد العقد عند عدم الاتفاق على المسائل الثانوية بحسب المعيار الموضوعي ، اذ انها تتحول الى مسألة جوهرية اذا تمسك بها أحد الطرفين ولم يقبلها الطرف الاخر ، كأن يكون جوهرياً بالنسبة للبائع او المشتري تسليم المبيع في مكان معين او زمان معين ، من هنا فأن بامكانهما تأخيرابرام العقد للاتفاق حول هذه التفصيلات ، وعندئذٍ لا ينعقد العقد قبل وجود اتفاق عليها3).
أضف الى ان النصوص التشريعية لم تحدد معياراً معيناً في قياس المسائل الجوهرية للعقد، فالنصوص المذكورة تشير الى ضرورة اتفاق الطرفين على المسائل الجوهرية باعتبارها لازمة لقيام العقد، أما المسائل الثانوية فلا تمنع من انعقاد العقد ما دام لم يتمسك بها أحد الطرفين، أي انها لم تتحول الى مسألة جوهرية على وفق المعيار الشخصي، ويؤكد ذلك العبارة الواردة في نص المادة 86/ف2 (( ... ولم يشترطا ان العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل )) فبمفهوم المخالفة ان احد الطرفين اذا اشترط ذلك لم ينعقد العقد، وهذا يدل على تحول المسألة الثانوية الى مسألة جوهرية بحسب المعيار الشخصي1).
ونرى أنه لابد من الاعتماد في تمييز المسائل الجوهرية من المسائل الثانوية على المعيار الموضوعي الذي يستند الى تحليل العناصر المميزة للعقد من غيره، واعتبار هذه العناصر الاساسية بمثابة العناصر الجوهرية، فكل عقد له غرض معين يسعى المتعاقد الى بلوغه من وراء ابرام هذا العقد، ففي عقد البيع يتجسد هذا الغرض في منفعة المبيع بالنسبة للمشتري والثمن بالنسبة للبائع، وفي عقد الايجار يتجسد في المأجور بالنسبة للمستأجر، والأجرة والمدة بالنسبة للمؤجر، وهكذا بالنسبة لبقية انواع العقود .
ولكن قد يرى احد المتعاقدين ولأسباب مختلفة ان مسألة ما من مسائل العقد والتي تصّنف من المسائل الثانوية حسب المعيار الموضوعي ذات صفة جوهرية له، فهنا لابد من احترام هذه الارادة خاصة اذا علق المتعاقد رضاؤه بالعقد على الاتفاق عليها، وفي هذه الحالة تبرز الحاجة الى اكمال المعيار الموضوعي بالمعيار الشخصي لنحدد بوضوح الخط الفاصل بين المسائل ذات الصفة الجوهرية والمسائل ذات الصفة الثانوية.
ثانياً: الاحتفاظ بالمسائل التفصيلية
اذا ما تحددت المسائل الجوهرية في العقد على وفق المعيار الموضوعي والمعيار الشخصي، فان كل ماعدا ذلك يصّنف ضمن المسائل الثانوية.
وتحديد المسائل التفصيلية يستند الى طبيعة العقد وماهيته، من هنا فهي تشمل كل المسائل التي لا تتصل بغاية العقد الاساسية او بالالتزامات المتقابلة فيه من مثل زمان تسليم المبيع في عقد البيع ومكانه، لذا فان المسائل الثانوية تتحدد على وفق المعيار الموضوعي، بمعنى ان المتعاقدين لايمكنهما ان يصنفا مسألة جوهرية ضمن المسائل الثانوية ويرجأن الاتفاق عليها لوقت لاحق، ذلك ان الفارق بين هذين النوعين من المسائل ان العقد لايتم الا بالاتفاق على المسائل الجوهرية في حين ان اغفال المسائل الثانوية لا يمنع من قيام العقد1).
واياً ما كان الامر، فان الاطراف يمكنهم أن يحتفظوا بمسائل تفصيلية للاتفاق عليها في وقت لاحق، سواء عبّروا عن ذلك صراحة أو ضمناً، وبعبارة اخرى، ان المسألة الثانوية قد طرحت اثناء المفاوضات وثار الخلاف بشأنها، وارجأ الطرفان الاتفاق عليها فيما بعد، او لم يثر خلاف بشأن المسألة الثانوية ولكن اتفق على تسويتها بموجب اتفاق لاحق2).
لذا فان المسائل الثانوية التي لم يتفاوض المتعاقدان بشأنها ولم يتفقا على تسويتها بموجب اتفاق لاحق لا يشملها حكم م(86/ف2) من القانون المدني العراقي لان عبارة (( واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد )) التي وردت في هذه المادة، تدل على ان المسألة التفصيلية قد اثيرت ولكنهما احتفظا بها للاتفاق عليها بعد انعقاد العقد1).
ثالثاً: ان لا يكون المتعاقدان قد اتفقا على تعليق انعقاد العقد على حدوث اتفاق بشأن هذه المسائل التفصيلية.
قد يعلق الطرفان انعقاد العقد على اتفاقهما حول مسألة ما من مسائل العقد، ولاشك ان هذا التعليق يجعل من هذه المسألة ذات صفة جوهرية لابد من الاتفاق عليها للقول بانعقاد العقد، اما اذا تبين من اتفاق الطرفين على المسائل الجوهرية ان الخلاف اللاحق كان يدور حول المسائل الثانوية فهذا لا يحولدون انعقاد العقد2).
والحقيقة ان نص (م86/2) من القانون المدني العراقي يقيم قرينة قانونية على ان المتعاقدين قد ارادا عدم تعليق انعقاد العقد على حدوث اتفاق بشأن المسائل التفصيلية، طالما انه لم يرد نص صريح في العقد يفيد ذلك، من هنا فان مجرد ذكر المسائل التفصيلية والتحفظ بشأنها دون اشارة لتوقف انعقاد العقد على حسمها، يفيد ان المتعاقدين قد ارادا أبرام العقد بصرف النظر عن الوصول الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية3).
فالامر لا يعدو في النهاية ان يكون تفسيراً لارادة المتعاقدين بحيث لو قام دليل على ان نيتهما لم تنصرف الى ابرام العقد الا بعد الاتفاق الكامل على جميع مسائل العقد الجوهرية والثانوية لوجب استبعاد النص، وتحتم على القاضي ان يقضي بان العقد لم يبرم1) .
من هنا، فان على المتعاقد الذي يدعي ان العقد قد عُلّق انعقاده على حدوث اتفاق بشأن المسائل التفصيلية المؤجلة ان يثبت ذلك، لانه يدعي بعكس الثابت قانوناً بحكم (م86/ف2) من القانون المدني العراقي.
الفرع الثاني
قيام القاضي باكمال العقد
اذا انعقد العقد باتفاق الطرفين على المسائل الجوهرية مع الاحتفاظ بالمسائل التفصيلية للاتفاق عليها في وقت لاحق، فهذا يعني استمرار كل من المتعاقدين بالتفاوض حتى الوصول الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية.
لذا سينشأ على عاتق كل من المتعاقدين التزام بالتفاوض يتحدد مضمونه بقيام كل منهما ببذل جهد معقول وسلوك المسلك الذي يقتضيه مبدأ حسن النية والثقة المشروعة بين الافراد، ويتجسد ذلك باتخاذ مواقف من شأنها ان تذلل العقبات وتقرب وجهات النظر للوصول الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية.
ولا نغفل الاشارة الى ان الالتزام بالتفاوض هو مجرد التزام بوسيلة، بمعنى ان المتعاقدين لا يلتزمانبضرورة التوصل الى اتفاق حول المسائل التي يتفاوضان بشأنها، ولكن اذا أخل أي منهما بالتزامه كأن يمتنع عن مناقشة البنود المتعلقة بالموضوع محل التفاوض، او يدخل في التفاوض ويشارك في مناقشة الامور التفصيلية الا انه لا يبذل العناية المطلوبة لانجاح المفاوضات، فهنا تقوم مسؤوليته العقدية لان الالتزام بالتفاوض التزام عقدي.
من هنا، فان الالتزام بالتفاوض بالمعنى المتقدم يختلف عن الالتزام بالتفاوض الذي ينشأ في الفترة السابقة على العقد والذي يستند الى مبدأ حسن النية في تكوين العقد، ويكون جزاء الاخلال به وفقاً لاحكام المسؤولية التقصيرية.
ولما كان الالتزام بالتفاوض التزام بوسيلة، فان المفاوضات قد لا تنتهي بالتوصل لاتفاق حول المسائل التفصيلية، وحينئذٍ لا يكون امام المتعاقدين الا اللجوء الى المحكمة المختصة لتفصل في الخلاف حول هذه العناصر الثانوية وهذا ما أشارت له (م86/ف2) من القانون المدني العراقي اذ جاء في شطرها الأخير ما نصه:((.... واذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها فان المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة الموضوع ولاحكام القانون والعرف والعدالة )).
والقاضي لا يتدخل لحسم الخلاف حول المسائل التفصيلية الا بناء على طلب يقدمه أحد العاقدين او كليهما، بعد ان يعجزا بمفردهما عن الوصول الى اتفاق بشأن هذه المسائل، ويتعيّن على القاضي قبل البدء في تنظيم المسائل المختلف عليها ان يحدد نوعها وهل هي ذات صفة جوهرية ام ثانوية ؟ فاذا كانت المسائل المختلف عليها جوهرية فعندئذ لا يوجدمبرر لتدخله، اذ العقد لم ينعقد بعد والطرفان ما زالا في مرحلة التفاوض، ومن ثم يجب ان يترك لهما تنظيم المسائل المعلقة، اما اذا كانت المسائل المتروكة ثانوية فحينئذ يشرع القاضي بتنظيمها2).
ويسترشد القاضي عند اكمال نطاق العقد بتنظيم المسائل التفصيلية بعدة موجهات هي طبيعة المعاملة واحكام القانون والعرف والعدالة3).
وحري بالذكر بعد هذا، ان الفقه قد ناقش دور القاضي وفقاً لحكم ( م86/ف2) مدني عراقي، وفيمااذا كان يساهم بموجب هذه السلطة الممنوحة له في تكوين العقد، فذهب جانب من الفقه الى ان المشرع قد جعل للقاضي بموجب هذا النص دوراً في تكوين العقد مخالفاً بذلك الاصول العامة والتي تقصر دور القاضي على التفسير.
بينما يرى الرأي الغالب في الفقه، وهو ما نميل اليه ونؤيده، ان السلطة الممنوحة للقاضي بموجب هذه المادة تجاوز سلطته العادية في تفسير ارادة المتعاقدين وتمتد لاستكمال ما نقص منها، غير ان هذا لايعني ان القاضي يساهم في صنع العقد، ذلك ان تدخله يأتي لاحقاً على انعقاد العقد وليس سابقاً عليه. فالعقد في الحالة التي نحن بصددها قد أنعقد بعد أن أتفق المتعاقدان على المسائل الجوهرية، لذا فان ما يحتفظ به المتعاقدين من مسائل تفصيلية لا يؤثر على جوهر العقد أو مضمونه اياً كان تنظيم هذه المسائل، وما يرجح هذا الاستدلال ان المتعاقدين لم يعلقا ابرام العقد على حدوث اتفاق بشأنها، فالصفة الثانوية لهذه المسائل هو الذي يبرر انعقاد العقد دون اتفاق بشأنها، وهو يشير الى ان أرادة المتعاقدين قد اتجهت الى ترك تسوية هذه المسائل للقاضي اذا ما ثار خلاف بشأنها3).
وخلاصة الأمر، ان القاضي عندما يكمل نطاق العقد بتنظيم المسائل التفصيلية وفقاً لحكم (م86/ف2) مدني عراقي، فانه لا يساهم في تكوين العقد وانما يساهم في تحديد نطاق العقد وما ينتجه من التزامات تحكم المسائل التفصيلية التي ترك المتعاقدان تنظيمها، فإرادة القاضي تتدخل الى جانب ارادة المتعاقدين في تنظيم بعض مسائل العقد بعد ان يكون الاخير قد أكتمل نشوؤه باتفاق المتعاقدين على المسائل ذات الصفة الجوهرية، ولانرى ضيراً في اعطاء القاضي مثل هذه السلطة، ذلك ان لجوء المتعاقدين للمحكمة المختصة بعد فشلهما في التوصل الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية دليل على تسليمهما بقدرة القاضي على ايجاد حل لهذه المسائل بالنظر لما يتمتع به من قدرات تؤهله لذلك، كما ان هذه السلطة تعزز الدور الايجابي للقاضي وتعطيه دوراً مهماً في تحديد مضمون العقد.
المطلب الثاني
اكمال نطاق العقد أعمالاً لنص المادة (150/ف2)
تنص المادة (150/ف2) من القانون المدني العراقي على انه:(( ولا يقتصر العقد على الزام المتعاقد بما ورد فيه ولكن يتناول ايضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام )).
يترتب على مبدأ سلطان الارادة ان مضمون العقد يقتصر على تلك الحقوق والالتزامات التي أتجهت اليها أرادة المتعاقدين وفقاً لما أدى اليه تفسير العقد، فلا يجوز امتداد نطاق العقد ليشمل حقوقاً والتزامات اخرى لم تنصرف اليه أرادة المتعاقدين.
غير ان هذه النتيجة يصعب الأخذ بها لسببين:
أولهما: ان هناك التزامات تبعية لم تنصرف اليها أرادة المتعاقدين ومع ذلك تلزمهما لانه بدونها لا يتحقق الغرض من العقد او يتعذر على أحد الطرفيناو كلاهما تنفيذ التزامه.
ولتحديد ماهية الالتزام التبعي نورد حكماً لمحكمة القاهرة الابتدائية ميّزت فيه، وقد أجادت في ذلك، بين الالتزام الاصلي والالتزام التبعي، وقد جاء في هذا الحكم ما نصه:((..... ويقصد بالالتزام الاصلي ذلك الالتزام الذي يحدد طبيعة العقد ويكون من مستلزماته التي لاغنى لتكوين العقد عن وجوده. والصفة الجوهرية لهذه الالتزامات الاصلية انها تكون بالنسبة لبعضها المقابل القانوني، بمعنى انها تكون سبباً لما يقابلها من التزام. اما الالتزامات التبعية فهي كل التزام غير أصلي والعنصر الاساسي الذي تمتاز به هي انها ترمي الى تحقيق الغرض العملي الذي يقصده المتعاقدان او تتطلبه طبيعة العقد. بمعنى ان هذه الالتزامات ترمي الى ان توفر للعقد جميع اثاره النافعة وتجعله ملائماً للظروف ...))1).
فمن يبيع حقاً يعد انه قد باع معه ما يكفله وما يؤيده من رهن او كفالة، ومن يبيع سيارة يعد انه قد باع معها الادوات الاضافية التي تلزم لتسييرها، ومن يبيع متجراً يعد انه قد باع معه السجلات التي توضح ما عليه من ديون وماله من حقوق وما يتصل بذلك من عملاء.
وثانيهما: ان العقد، وفي كثير من الاحوال لا يتضمنتنظيماً لكافة جوانب العلاقة العقدية، فقد يغفل المتعاقدان تنظيم العديد من الامور اما سهواً او عمداً اذا كانت اثارتها في مرحلة ما قبل التعاقد قد تؤخر او تحول دون ابرام العقد، او عن غير دراية باهمية أمر معين، او لان العمل لم يجر على مواجهتها لاستحالة توقع النتائج التي تترتب على ما يستجد من ظروف وعدم توقع كيفية سير الاحداث2).
ولمعالجة النقص الحاصل في مضمون العقد في الحالتين السابقتين فقد أعطى المشرع للقاضي بموجب نص (150/2) السالف الذكر، سلطة اكمالنطاق العقد باضافة الالتزامات التي تقتضيها طبيعة ذلك العقد، ولو لم تتجه اليها أرادة الاطراف3).
بيد ان تحديد نطاق العقد ومعرفة فيما اذا كان قد حوى جميع ما يفترض ان ينتجه من التزامات ام لا، يقتضي اولاً تفسير عبارات العقد اذا كان يكتنفها الغموض للتعرف على الارادة المشتركة للمتعاقدين، ثم تحديد ماهية العقد أي أعطاؤه الوصف القانوني الذي يتناسب وما انصرفت اليه الارادة المشتركة للمتعاقدين، دون التقيد بالوصف الذي اعطاه المتعاقدان للعقد، فاذا فرغ القاضي من تحديد ماهية العقد أستطاع بعد ذلك ان يكمل النقص الحاصل في مضمون العقد اذا كان يشوبه النقص1).
وعلى الرغم من ان تحديد مضمون العقد يعني رسم صورة كاملة لحقوق والتزامات كل من المتعاقدين كما تفرضها طبيعة العقد، ولو كان ذلك باضافة التزامات وحقوق لم يواجهها الطرفان للاتفاق عليها صراحة او ضمناً، الا انه يتعلق بالتوابع وليس بالمحل الاصلي للالتزام، ذلك ان القاضي حينما يعرض عليه نزاع حول التزام ما وفيما اذا كان العقد ينتجه ام لا، فهذا يفترض ان العقد قد أنعقد، والعقد كما هو معروف لايتم الا بتعيين الالتزامات الاصلية للمتعاقدين، ومن ثم فالالتزامات التي يضيفها القاضي تعد التزامات تبعية تضاف الى المسائل الجوهرية التي أنعقد بها العقد2).
وقد تخوف البعض من اعطاء القاضي القدرة على اضافة التزامات جديدة بحجة تكملة نطاق العقد، اذ انها (( تلزم المتعاقدين بما وراء السطور وهي تعطي للقاضي سلطة خطرة، لانه بموجبها يمكن ان يزيد في التزامات المتعاقدين، وفي هذا أهدار لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين))3).
بيد ان الاتجاه التشريعي السائد قد استقر(( تحت تأثير تغلغل فكرة العدالة الاجتماعية في ثنايا عصرنا، على شيء معقول من التوسعة في مضمون العقد من غير اسراف او شطط. ومؤدى هذه التوسعة ان يدخل في مضمون العقد الى جانب الاحكام التي يجيء بها عاقداه وتلك التي يقضي بها القانون في شأنه، ما يعتبر من توابع العقد ومستلزماته))1).
من هنا، حاول المشرع العراقي ان يوفق بين المعيارين الشخصي والموضوعي، ففي الفقرة الاولى من المادة (150) من القانون المدني العراقي اعتنق المشرع معيار ذاتي في تنفيذ العقد مقتضاه ان يكون التنفيذ متفقاً مع ما يوجبه حسن النية، مما يستلزم الرجوع الى السلوك الشخصي للمدين وقصده الحقيقي لمعرفة ما اذا كان قد اتبع مبدأ حسن النية ام لا، وهو الامر الذي يختلف من مدين لاخر ويتنوع حسب طبيعة العقود، ولكن الفقرة الثانية من المادة المذكورة نفسها سرعان ما تداركت هذه النزعة الشخصية فقيّدت المعيار الذاتي بمجموعة من الضوابط الموضوعية في تحديد نطاق العقد تحقق التوازن بين المعيارين الشخصي والموضوعي وذلك حينما نصت على عدم اقتصار العقد على ما ورد فيه بل بانصرافه ايضاً الى ماهو من مستلزماته على وفق القانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام، لذا فأن نص المادة (150) مدني عراقي قد أوجد توازناً معتدلاً بين النزعتين الشخصية والموضوعية في الالتزام، اذ جعل مناط تنفيذ العقد مرتبطاً بمعيار ذاتي يستوجب حسن النية، ثم اقام تحديد نطاق العقد على معايير موضوعية تحد من النزعة الشخصية وتمنع من تحكم القاضي2).
أضف الى ان القاضي عندما يضطلع بمهمة تحديد نطاق العقد انما يقوم بعملية قانونية يخضع فيها لرقابة محكمة التمييز، اذ يكون لهذه المحكمة نقض حكمه اذا لم يدخل في نطاق العقد ما يعد من مستلزماته أو ادخل فيه ما لا يعد من مستلزماته1).
والواقع فيما نرى، يستلزم أعطاء القاضي سلطة اكمال نطاق العقد الذي يشوبه النقص للاسباب التي بيناها سلفاً، اما التخوف من اعطاء القاضي هذه السلطة فلا مبرر له ويشكل جزءاً من بقية المغالاة بمبدأ سلطان الارادة الذي يعطي للارادة وحدها صلاحية تحديد ما ينتجه العقد من التزامات، هذا الامر الذي لم يعد ينسجم مع الواقع الذي افرز الكثير من الحالات التي لا يقف فيها المتعاقدان على قدم المساواة بسبب الاختلال في التوازن الاقتصادي او في عنصر المعرفة التقنية، مما أحدث خللاً في التوازن العقدي، وإعطاء القاضي سلطة التأثير على مضمون العقد يمكنه من أعادة التوازن المفقود بين الطرفين، وتأمين قدر معقول من الحماية للطرف الضعيف في العلاقة العقدية.
أما الخوف من تحكم القاضي فمستبعد لأن المشرع قد وضع المعايير التي بموجبها يتم اضافة الالتزامات الى مضمون العقد والتي تستند الى فكرة طبيعة الالتزام، ومن ثم فان جميع الالتزامات التي يكمل بها نطاق العقد ستكون متوائمة مع طبيعة العقد.
أضف الى ذلك، ان القاضي حينما يكمل نطاق العقد سيكون خاضعاً لرقابة محكمة التمييز التي لها نقض حكمه اذا أضاف الى العقد ما لا يعد من مستلزماته.
وما يعزز التحليل السابق ويؤكده، استثمار القضاء المقارن لسلطته في اكمال نطاق العقد لاثراء مضمون بعض العقود بعدد من الالتزامات على الرغم من عدم وجود أي نص عليها سواء في القانون او في العقد.
وقد كان للقضاء الفرنسي قصب السبق في هذا المضمار، اذا أضاف العديد من الالتزامات لعل من أبرزها الالتزام بالسلامة الذي فرض على عاتق الناقل في عقد نقل الاشخاص حيث اوجب القضاء الفرنسي على الناقل ايصال الراكب سليماً ومعافى الى المكان الذي يقصده، وقد ظهر لأول مرة في عقد النقل البحري، ثم شمل النقل البري والجوي.
وسار القضاء المصري على خطى القضاء الفرنسي، اذ قضى بأن: ((.....وعند انعدام النص الصريح في عقد النقل على ضمان الناقل للراكب الذي يتعهد بنقله، يعتبر الناقل مسؤولاً مسؤولية تعاقدية على اساس اشتمال هذا العقد على التزام ضمني من جانبه بايصال المسافر سالماً الى الجهة التي يتعهد بنقله إليها، ولا شبهة في ان من بين الالتزامات التي يشتمل عليها العقد التزام الناقل ضمناً بسلامة الراكب اثناء النقل الى الجهة المتعاقد على النقل إليها، لان مثل هذا الالتزام هو أول مميزات هذا النوع من التعاقد ))2).
وقد اخذ المشرع العراقي بهذا الالتزام اذ نصت( م10 ) من قانون النقل رقم 80 لسنة 1983 على انه:( اولاً_ يسال الناقل عن الاضرار التي تصيب الراكب اثناء تنفيذ عقد النقل.ويبطل كل اتفاق يقضي باعفاء الناقل كلياً او جزئياً من هذه المسوؤلية).
وينبغي الإشارة إلى أن مسوؤلية الناقل عن سلامة الراكب تستند الى عقد النقل لاحتوائه على التزام بالسلامة لمصلحة الراكب في القانون الفرنسي والمصري، اما في القانون العراقي فانها تستند الى نص القانون الذي فرض التزام بالسلامة على عاتق الناقل لمصلحة الراكب.
وقد وسع القضاء الفرنسي من دائرة الالتزامبالسلامة ليشمل عقوداً اخرى تتسم بالخطورة وسيطرة المهني عليها، من ابرزها عقد العلاج الطبي حيث يلتزم الطبيب بضمان سلامة المريض الا ان التزامه هو ببذل عناية لا بتحقيق غاية،فطبيعة((العقد المبرم بين الجراح وعميله لا يحمل الطبيب في الواقع العملي اكثر من التزام بوسيلة، ومع ذلك فان هذا الالتزام غير خال من التزام بالسلامة يجبره على تعويض الضرر الذي يمكن ان يتعرض له مريضه على اثر تدخل جراحي ضروري للعلاج ورغم عدم وجود خطأ من جانبه عندما يكون هذا الضرر لا علاقة له بالحالة السابقة للمريض ولا بالتطور المتوقع لهذه الحالة))1).
كما فرض هذا الالتزام على عاتق إدارة المدرسة الخاصة، إذ قضت محكمة النقض الفرنسية بمسؤولية ادارة المدرسة عن اصابة تلميذ في الحادية عشرة نتيجة لاصطدامه بسيارة في الشارع بعد خروجه من المدرسة، حيث تلتزم المدرسة بملاحظة التلميذ ومنعه من الخروج من المدرسة بمفرده2).
ومستثمر ميدان أراجيح يقع عليه التزام بالسلامة تجاه زبائنه خلال اللعب1)، وصاحب المرآب ملزم تجاه زبائنه الذين يودعون مركبة لاصلاحها بالالتزام بالسلامة2).
كما فرض على صاحب الفندق التزام بالمحافظة على سلامة النزيل، فقد قضت محكمة النقض المصرية بما نصه:(( مفاد النص في الفقرة الثانية من المادة (148) من القانون المدني على انه: ( لا يقتصرالعقد على الزام المتعاقد بما ورد فيه ولكن يتناول ايضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام ) ان الالتزام التعاقدي قد يتسع ليشمل ما لم يتفق عليه صراحة مما تقتضيه طبيعته، فاذا أتفق على نزول مسافر في فندق فان العقد لا يقتصر على الزام صاحب الفندق بتقديم مكان النزول وانما يلزمه أيضاً بما تقتضيه طبيعة الالتزام بالإيواء ومن هذا القبيل وفق ما جرى به العرف بين الناس اتخاذ الحيطة واصطناع الحذر بما يرد عن النزيل غائلة ما يتهدد سلامته من مخاطر ويحفظ عليه امنه وراحته فيعصمه من الضرر على نحو ما يعصمه أيواؤه الى سكنه))3).
وفي الوقت الحاضر أضاف القضاء الفرنسي الى مضمون العقود ذات الطابع المهني التزامات جديدة تتمثل بالاعلام والتحذير والنصيحة، وسوف نبحثها في الموضع المناسب من هذه الأطروحة.
واذا يممنا وجهنا نحو القضاء العراقي نجد انه قد بقي بمعزل عن هذه التطورات التي شهدها القضاء المقارن من مثل القضاء الفرنسي والقضاء المصري، فلم يباشر اجتهاداً خلاقاً في أكمال نطاق العقد كما فعل القضاء الفرنسي مع ان القانون المدني العراقي يتضمن القواعد المرنة الموجودة في القانون المدني الفرنسي نفسها والتي طوعها القضاء الفرنسي ليرفد مضمون العقد بالعديد من الالتزامات التي تحمي جانب الطرف الضعيف في العلاقة العقدية، وبما يعزز دور العقد الأخلاقي والاجتماعي ويجعله وسيلة لتحقيق العدل بين طرفيه.
لذا نتمنى على القضاء العراقي ان لا يقتصر دوره على مجرد التطبيق الحرفي للنص، بل يعمل على تطويع تطبيق هذه النصوص بما ينسجم مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع بهدف حماية الطرف الضعيف واعادة التوازن بين المتعاقدين.
وأياً ما كان الامر، فان المسألة التي اثارت جدلاً في الفقه هي: ما الفرق بين دور القاضي في الصورة المنصوص عليها في ( م86/ف2)، ودوره في الصورة المنصوص عليها في (150/ف2) من القانون المدني العراقي ؟
ولقد أنقسم الفقه في شأن هذه المسألة الى وجهتين:
ترى أولاهما ان هناك فرقاً بين الحالتين، حيث ان المتعاقدين في الحالة المنصوص عليها في المادة (150/ف2) قد اغفلا بعض التفصيلات لانهما لم يتوقعاها أو توقعاها ولكن تركا تنظيمها لاحكام القانون، اما في الحالة المنصوص عليها في المادة (86/2) فان التفصيلات التي تركها المتعاقدان دون تنظيم هي تفصيلات توقعاها، وارادا أن ينظماها باتفاقهما، ولكنهما عجزا عن الوصول الى هذا الاتفاق، والقاضي في الحالة الاخيرة لا يفسر نية المتعاقدين ولا يكمل نطاق العقد وانما يحل محل أرادة المتعاقدين في صنع العقد.
بينما ترى ثانيهما، بحق، انه لا يوجد ما يستوجب التمييز بين دور القاضي في اكمال نطاق العقد طبقاً للمادة (86/2)، ودوره طبقا للمادة (150/2)، اذ انه في كلتا الحالتين يأتي لاحقاً لانعقاد العقد، فاذا أختلف المتعاقدان حول المسائل التفصيلية التي احتفظا بها لاتفاق لاحق، فان القضاء يستكمل ما يتناوله العقد بتحديد مسائله التفصيلية على وفق الاسس التي نص عليها المشرع، ولا يختلف الحكم اذا كان المتعاقدان قد سكتا عن بعض المسائل التفصيلية في العقد، فلم يعرضا لتحديدها، فان القاضي يقوم بتكملة العقد بتحديد مسائلهالتفصيلية على وفق الضابط الذي اعتمده المشرع وهو طبيعة الالتزام1).
والواقع فيما نرى، يتفق مع ما ذهبت اليه الوجهة الثانية، فلا فرق بين دور القاضي في الصورة التي اوردتها (م86/2)، او الصورة التي اوردتها(م150/2)، فالقاضي في كلتا الصورتين يستكمل نطاق العقد باضافة الالتزامات التي تنظم المسائل التي تركها المتعاقدان، سواء تركاها عمداً للاتفاق عليها في وقت لاحق بعد أبرام العقد بعد ان أتفقا على المسائل الجوهرية، أو انهما تركاها سهواً لانهما لم يتوقعاها، او لانها لم ترد بذهنهما خاصة مع السرعة في ابرام العقود التي يشهدها عصرنا الحالي، وبعبارة اخرى، ان النتيجة المترتبة على كلتاالصورتين هي قيام القاضي بسد النقص الذي يشوب مضمون العقد.
ولكن ينبغي ان لا يفهم ان نص (م150/2) يغني عن نص (م86/2)، كما تصور ذلك راي في الفقه2) ، لان هذين النصين وان كانا يلتقيان من حيث النتيجة الا انهما يختلفان من حيث الحكم، فنص (م86/2)3)يمثل خروجاً من المشرع على حكم القواعد العامة التي تقضي بعدم انعقاد العقد الا اذا تم الاتفاق بين المتعاقدين على جميع مسائل العقد ، سواء أكانت جوهرية ام ثانوية ، اما الاتفاق على بعض المسائل فلا يكفي لانعقاد العقد ، الا ان القانون المدني العراقي جاء بحكم جديد في (م86/2) ، بحجة ان اتفاق المتعاقدين على المسائل الجوهرية وارجاء الاتفاق على المسائل التفصيلية لوقت لاحق بعد ابرام العقد ، يدل على اتجاه نيتهما نحو اعتبار العقد منعقد وان هذه المسائل التفصيلية ليست من الاهمية بدرجة قصوى بحيث تحول دون اتمام العقد ، والمعنى المتقدم لايمكن ان نستنتجه من نص المادة(150/2) .
الفصل الثاني
تأصيل دور القضاء في اكمال نطاق العقد
تمهيد وتقسيم:
يترتب على منح القاضي سلطة اكمال نطاق العقد الذي يشوبه النقص في الصورتين اللتين أشارت لهما (م86/2) و(م150/2) من القانون المدني العراقي العديد من الآثار لعل من أبرزها ان هذه العملية سيتولد منها اضافة التزامات جديدة الى مضمون العقد، وهذا ما يجعل ارادة اخرى الى جانب أرادة المتعاقدين تساهم في تحديد ماينتجه العقد من التزامات، فكيف تبرر هذه المساهمة وما هو مصدر الالتزامات التي يضيفها القاضي ؟
كما أن سلطة أكمال نطاق العقد جعلت القاضي يساهم في تعزيز محتوى العقد بالتزامات جديدة تثري مضمونه لتحقيق مصالح معينة يراها اولى بالرعاية، أو لحماية فئات معينة من المجتمع تحتاج الى الحماية.
ومن اجل الاحاطة بما تقدم، سنوزع البحث في هذا الفصل علىمبحثين:نفرد أولهما لأحكام اكمال نطاقالعقد، ونخصص ثانيهما للأسباب التي دفعت القضاء الفرنسي لتعزيز محتوى العقد.
المبحث الأول
أحكام أكمال نطاق العقد
أثارت عملية أكمال نطاق العقد العديد من التساؤلاتحول مصدر الالتزامات التي يضيفها القاضي الى مضمون العقد الذي يشوبه النقص، لأن الأصل ان العقد تصرف قانوني قائم على الارادة في نشوئه أو ماينتجه من اثار، فهل أن الالتزامات المضافة هي تعبير عن أرادة المتعاقدين، أم أنها تعبير عن أرادة المشرع ؟
وإذا كان القاضي يملك أكمال نطاق العقد، فما هي الآلية التي تخضع لها عملية أكمال الالتزامات العقدية، فلا يعقل أن تكون المسألة تحكمية، فيكون ذلك مدعاة لتقديرات القاضي المبنية على معايير شخصية، فلابد من وجود معايير موضوعية يستندإليها القاضي حينما يعتبر التزام ما من مستلزمات العقد.
ومن أجل الاحاطة بما تقدم، سنوزع البحث في هذا المبحث علىمطلبين: نفرد أولهما لتحديد مصدر الالتزامات التي يضيفها القاضي، ونخصص ثانيهما لآلية اكمال نطاق العقد.
المطلب الأول
تحديد مصدر الالتزامات التي يضيفها القاضي
نشب خلاف في الفقه بشأن مصدر الالتزامات التي يضيفها القاضي الى مضمون العقد حينما يقوم بأكمال نطاقه، فرأى البعض من الفقه أن هذه الالتزامات هي امتداد لارادة المتعاقدين يكشف عنها القاضي بالوسائل المقررة قانوناً، بينما نفى البعض الاخر من الفقه أي صلة بين الارادة وهذه الالتزامات، ورأى أنها تنبع من المعايير الموضوعية التي أحال المشرع القاضي اليها في حالة قصور العقد عن تنظيم مسائل تعد من مستلزماته.
وسنبسط الكلام عن هاتين الوجهتين كلاً في فرع مستقل.
الفرع الأول
القاضي يعبر عن أرادة المتعاقدين
يرى جانب من الفقه، ان القاضي حينما يكمل نطاق العقد فأنه يستند في هذه العملية القانونية الى ارادة المتعاقدين، لأن العقد تصرف قانوني إرادي، ومن المفروض أن تهيمن الارادة على تنظيم كافة مسائله، سواء كانت متعلقة بانشائه أو ترتيب أثاره، ولايمكن لارادة خارجة عن أرادة المتعاقدين أن تنظم أي جانب من جوانب العلاقة العقدية بين الطرفين، من هنا فأن القاضي حينما يضيف التزام ما الى مضمون العقد فأنه لا يقوم الا بتكملة الارادة الناقصة.
وترى هذه الوجهة أن النصوص القانونية التي عالجت مسائل تفسير العقد أو اكماله هي ذات حكم واحد، والقاضي بموجبها يبحث عن الارادة المشتركة للمتعاقدين، والتي يتجسد الحد الادنى لها في التفسير بوجود العقد وصحته، ويضاف الى هذه الارادة عند اكمال نقص العقد ماينتجه من آثار أغفل المتعاقدان الاشارة اليها.
والسؤال المتبادر ههنا، كيف يكشف القاضي عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين ؟
تباينت أراء أنصار هذه الوجهة في الإجابة على هذا السؤال، فيرى البعض منهم ان القاضي يستعين بالوسائل التي حددها له المشرع، فطبيعة المعاملة وطبيعة الالتزام توجب مستلزمات للعقد يجب أعمالها، والقاضي اذ يحدد هذه المستلزمات يقوم بتحليل العقد الذي أنشأه الطرفان، ليصل في الأخير الى استخلاص مضمون ارادتيهما.
من هنا، فأن الوسائل المتقدمة لا تعدو أن تكون ظروفاً خارجية تساهم في الكشف عن الارادة المشتركة، وتمكن القاضي من تحديد مضمون التزام المدين، فهي جزء من التعبير الثانوي الذي يفصح عن الارادة الملزمة، والقاضي عندما يستعين بهذه الظروف الخارجية لا يكمل الارادة بل يكمل التعبير الرئيس الذي لم يتضمن سوى المسائل الجوهرية، ولهذا يلتجيء من أجل تنظيم المسائل التفصيلية التي لم يتضمنها هذا التعبير الى الارادة الباطنة للمتعاقدين التي تكشف عنها مختلف الظروف الخارجية .
بيد ان مساهمة الظروف الخارجية في تحديد مضمون العقد تنحصر في الكشف عن الارادة المشتركة التي توافق عليها الطرفان، فهي ليست معايير خارجية مستقلة تقف في مقابل ارادة المتعاقدين تناقضها وتتغلب عليها.
في حين رأى رأي آخر، ان القاضي يكشف عن أرادة المتعاقدين بوساطة النصوص القانونية المفّسرة، فهو يبحث اولاً عن الارادة الصريحة فاذا لم يجدها التجأ الى الارادة الضمنية، ولاستجلاء هذه الإرادة الأخيرة يلتجيء الى العادات وطبيعة العقد، فاذا لم يجد هذا البحث نفعاً، فأنه يلجأ الى الارادة المفترضة، وتبدو هذه الارادة في مجموع القواعد المفسرة، فالقاضي عندما يجعل نبراسه تنفيذ العقد بحسن نية لا يعمل فقط على استجلاء نية الطرفين الفعلية، بل يعمل على تكملتها أخذاً بما تقضي به أحكام العرف والذمة والامانة في المعاملات، فالمفروض أن المتعاقدين قد قصدا ذلك، وان لم يعبرا عن الحكم الذي أخذ به القاضي.
الفرع الثاني
القاضي يستند الى معايير موضوعية
يرى جانب من الفقه، وهو ما نميل اليه ونتبناه، اناكمال نطاق العقد عملية قانونية تستند الى معايير موضوعية مجردة عن ارادة المتعاقدين، فالقاضي لا يبحث فيما يحتمل أن يريده العاقدون لو أنهم واجهوا المسألة محل البحث، ولا يسعى لتحديد ارادتهم المفترضة، وانما يسعى لتحديد ما يمكن أن يستنتج من العقد من الناحية الموضوعية1).
وقد تضمن القانون المدني الفرنسي والقانون المدني العراقي نصوصاً تمثل المنطلق للموجهات الموضوعية التي يعتمد عليها القاضي عند اكمال نطاق العقد، فقد اعتبرت (م1135) من القانون المدني الفرنسيان العقود لا تلزم فقط بما ورد فيها بل تشمل كذلك المستلزمات التي تقتضيها العدالة والعرف ونص القانون وفقاً لطبيعة الالتزام، وكذلك ما نصت عليه (م1160)2)من أن نقص العقد يجري اكماله عن طريق الشروط الشائعة الاستعمال ولو لم يعبر عنها في العقد، وهذا ما تضمنته (م150/ف2) من القانون المدني العراقي اذ نصت على انه:((ولا يقتصر العقد على الزام المتعاقد بما ورد فيه، ولكنيتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام )).
من هنا، فان الالتزامات التي يضيفها القاضي لأكمال نقص العقد تنبع من هذه الموجهات التي تستند الى طبيعة العقد، فالالتزام المضاف يرتبط بالنموذج العقدي المختار وبصرف النظر عن أرادة المتعاقدين3).
ويقدم البعض من الفقه الفرنسي1)، تبريراً مقنعاً ، للوجهة السابقة اذ يرى ان العقد لا يكون ملزماً الا اذا تم قبوله بحرية وكان مفيداً وعادلاً ، وقبول العقد بحرية يعني ان رضا العاقدين قد صدر عن ارادة حقيقية حرة ومستنيرة ، وفي هذه الحالة يجب احترام ارادة المتعاقدين ، فلا يجوز لقضاة الموضوع تعديل الالتزامات التعاقدية بذريعة العدل أو الانصاف ، أو أن يحاولوا تغليب مفاهيمهم الشخصية للمفيد والعادل ، فلا بد من احترام القوة الملزمة للعقد 2).
بيد أن الطرفين وأن كانا يقفان على قدم المساواة عند اختيار نوع العقد المنوي ابرامه، الا ان اليات تنفيذ العقد سيمليها المتعاقد الذي يتمتع بالقوة الاقتصادية أو بالمعرفة القانونية، والاستناد الى ارادة المتعاقدين المشتركة، على فرض انها كانت ظاهرة، لن يفيد في معالجة الخلل في التوازن بين المتعاقدين، ولأجل اعادة الثقة بالقانون بمعناه الواسع لابد من اقامة نوع من التوازن بين الالتزاماتوفقاً للعدالة، لذا يزداد تدخل المحاكم يوماً بعد آخر لتحديد التزامات الطرفين واثراء مضمون العقد بالعديد من الالتزامات التي تحقق هذه الغاية3).
وقد حرصت محكمة النقض الفرنسية على ان تتم أعادة التوازن العقدي بحذر حتى لا تؤدي الى نتائج عكسية قد تفضي الى خسارة الثقة بالعقد، لذا تشددت في مراقبة عملية اكمال نطاق العقد وتجسد ذلك بنقض احكام قضاة الموضوع عندما يضعون على عاتق المتعاقد التزاماً لاتستلزمه طبيعة العقد، ولا تفرضه المنفعة الاجتماعية للعقد أو عدالة المعاوضة4).
وأياً كان الامر، فالملاحظ على الوجهة الأولى التي ترى ان القاضي يستند الى ارادة المتعاقدين عند اكمال نطاق العقد، تمسكها بمبدأ سلطان الارادة من جهة أن العقد يخضع من حيث أنشائه واثاره لارادة المتعاقدين، ولا يقبل بأي حال من الاحوال تدخل ارادة أخرى الى جانب ارادة المتعاقدين، علىالرغم من التطورات التي شهدها قانون العقد والمتمثلة بتدخل المشرع ايجابياً في حياة العقد لتحقيق أهداف يراها ضرورية أو لحماية مصلحة يرى أنها أولى بالرعاية والحماية.
كما أن الوجهة السابقة لا تميز بين تفسير العقد واكمال نطاقه، فالتفسير يستند الى الارادة، اذ يحاول القاضي من خلال تحليل عبارات العقد إزالة ما يكتنفه من غموض اعتماداً على الارادة المشتركة للمتعاقدين، اما اكمال نطاق العقد فانه لا يستندالى ارادة المتعاقدين سواء أكانت المشتركة أمالمفترضة، لغيابها في الحالة الأولى، ولتعارض مصالحهما مما يتعذر الاخذ بها في الحالة الثانية، وانما يلجأ القاضي الى معايير موضوعية لإكمال النقص الذي يشوب العقد.
أما ما أستدل به البعض من أنصار هذه الوجهة، من أن الاحكام القانونية المكملة تمثل ظرفاً خارجياً يستعين به القاضي للكشف عن الارادة المشتركة للمتعاقدين، فمردود من جهة اشتراط صاحب هذا الرأي ان يكون هذا الظرف معداً بالاشتراك بين الطرفين ليفصح عن ارادتهما المشتركة، أي انهما قد وافقا عليه معاً حتى نعده مكملاً لتعبيرهما الرئيس، وهذا قد لا يتحقق، لان المسألة المتروكة من قبل المتعاقدين، اذا لم تكن متوقعة من قبلهما فانهما لن يفكرا في حلها حتى يصح افتراض علمهما بحكم القانون وقبولهما بهذا الحكم، ولو سلمنا جدلاً أنهما قد توقعا المسألة وتركا حكمها للقانون، فانهما قد لا يعلمان بحقيقة هذا الحكم، وقد يفهم الطرفان أو احدهما هذا الحكم على نحو اخر يختلف عما أراده المشرع.
اما ما قاله البعض من أنصار هذه الوجهة، بأن القواعد التشريعية المكملة هي تفسير لارادة المتعاقدين، وان قوتها الملزمة مستمدة من اتجاه ارادة المتعاقدين للأخذ بها مالم يتفقا على ما يخالفها، فمردود، لأن المفروض ان المتعاقدين لم يتعرضا أصلاً للمسائل التي تنظمها القواعد التشريعية المكملة، بل يكونا على جهل تام بها في كثير من الاحيان، لذا فان اسباغ القوة الملزمة من اتجاه ارادة المتعاقدين الى الاخذ بها، هو افتراض لااساس له في الواقع في كثير من الاحيان1).
وحري بالذكر بعد هذا، التطور الذي شهده دور القضاء، فقد أضحى مصدراً مهماً لسد النقص في التشريع (( وهو بهذا الوصف كالتشريع سواء بسواء، وهذا المصدر أخذ بالتعاظم والنمو بقدر ما أصاب التشريع من الهرم وطول البقاء، وقد أقامت المحاكم شيئاً فشيئاً بناءً خاصاً من القواعد القانونية وفقهاً يكمل ويثري العمل التشريعي ويعّدله، من دون أن تخرج عن نطاق اختصاصها التفسيري، ملتمسة أسباب حكمها في النصوص ذاتها، ولدى انعدامها في المبادئ العامة التي تهيمن على هذه النصوص وتسيطر عليها))2).
فالتشريع لايمكن ان يحيط بكل شيء، ولا يستطيعالمشرع مهما كان بصيراً بالتشريع أن يتنبأ بكل مسألة ليضع لها حلاً(( فالنصوص التشريعية محدودة العدد، والنوازل غير محدودة، ولا يحيطالمحدود بغير المحدود، فيما لم يخطر للنصوص على بال عند سنها، لابد له من أجهزة عملية ونظرية رسمية وحرة تبذل ما في وسعها من جهد عقلي بما خولت من أدلة استنباطية لكي تتوصل الى استنباط الحلول الجديدة المختصة بالنوازل المتكررة سواء في اطار الاحداث العامة أم الروابط الخاصة ))1).
من هنا، أناط المشرع مهمة التطوير الجزئي للقانون وسد ما فيه من ثغرات بالقاضي، الذي لم يعد دوره ينحصر في معرفة القانون وتطبيقه، وانما منح قدراًمن حرية البحث في مدى ملائمة القانون، واحداث الموائمة بين ثبات القاعدة القانونية وتطور الحياة2).
وهذا الأمر جعل المشرع يعترف بالدور الإنشائي للقضاء في اثراء التشريع بشكل عام، والتقنين المدني بشكل خاص، فقد نصت (م1/ف2) من القانون المدني العراقي على انه:(( فاذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فاذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فاذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة))3).
نخلص مما تقدم، أن القضاء قد أصبح له دور متميز في خلق القانون وسّد نقص التشريع، ولو يممنا وجهنا نحو نظرية العقد، نجد ان القضاء الفرنسي وتحت ستار تكميل العقد، قد ساهم في تعزيز محتواه بالعديد من الالتزامات التي تحقق التوازن بين المتعاقدين، ولم يكن القضاء الفرنسي يفصح على انه هو الذي ينشأ هذه الالتزامات وانما يردها الى مبدأ حسن النية او الطابع التقني للعقد1).
بينما يرى البعض من الفقه، ان القضاء هو مصدر الالتزامات التعاقدية، مثلما يكون مصدراً من مصادر القاعدة القانونية، وأطلقوا على الالتزام الذي يضيفه القاضي الى مضمون العقد عند أكمال نطاقه، مصطلح الالتزام القضائي2).
ونؤيد ان يكون للقضاء دور خلاق في تعزيز محتوى العقد بالعديد من الالتزامات التي تؤكد الدور الأخلاقي والاجتماعي للعقد، وتجعله وسيلة لتحقيق العدل بين طرفيه، ولكن لايمكن اعتبار القضاء مصدراً لهذه الالتزامات، وانما مصدرها العقد نفسه، فالقاضي يعتمد على معيار مستلزمات العقد في اثراء مضمونه بالالتزامات التي تقتضيها طبيعته والتي لم يشر لها المتعاقدان، ومستلزمات العقد معيار مرن ومتطور، يتأثر بظروف الزمان وإمكانيات المتعاقدين الاقتصادية والمعرفية، وطبيعة المحل الذي يرد عليه العقد3).
من هنا، فان ما لايعد من مستلزمات العقد في زمن ما، يمكن ان يكون كذلك في زمن لاحق، والمثل على ذلك عقد البيع فقد كان يرد على اشياء بسيطة بسبب البساطة التي كان يعيشها المجتمع، في حين انه يرد في الوقت الحاضر على أشياء دقيقة ومعقدة بسبب التطور التقني المتسارع الذي يشهده المجتمع البشري، وهذا ما فرض التزامات على البائع لم تكن مفروضة عليه من قبل من مثل الالتزام بالسلامة او الالتزام بالإعلام، بوصفها التزامات تقتضيها طبيعة عقد البيع في الوقت الحاضر.
أضف الى ان الالتزامات التي يضيفها القاضي هي التزامات تبعية تهدف الى تحقيق الغرض العملي الذي يقصده المتعاقدان، وانتاج العقد لجميع آثاره النافعة، وجعله ملائماً للظروف.
من هنا، فان القاضي عليه ان ينظر الى طبيعة العقد نظرة متطورة ومرنة تراعي ظروف المجتمع وصفات المتعاقدين، جاعلاً نصب عينيه اعتبارات العدالة وحسن النية في تنفيذ العقد، ثم يعمل على تكملته بالالتزامات التي تقتضيها طبيعة هذا العقد.
لذا نعتقد ان ما يميز القضاء الفرنسي عن قضائنا العراقي هو مواكبته للتطورات الاجتماعية والاقتصادية باجتهاد خلاق يطوع النصوص المرنة ويجعلها متوائمة مع هذه التطورات، على عكس القضاء العراقي الذي يقتصر دوره على التطبيق الحرفي للنص القانوني في كثير من الأحيان.
المطلب الثاني
آلية أكمال نطاق العقد
حرصت التشريعات التي منحت القاضي القدرة على اكمال نطاق العقد، ان تحدد وبدقة مسار عمل القاضي، والعوامل التي يستند إليها، فأقامتها على أسس موضوعية أبعاداً لها عن النزعات الشخصية للقاضي، ولئلا تتحول الى سلطة تحكمية بيده، لذا نجدها جعلت اضافة الالتزامات مشروطة بكونها من مستلزمات العقد، كما انها لم تطلق العنان لاجتهاد القاضي في تفسير مستلزمات العقد، إذأوردت محددات لمعنى المستلزمات تساعد القاضي في الوصول الى المعنى المنضبط لهذه الفكرة.
لذا سنوزع البحث في هذا المطلب على فرعين: نتوفر في أولهما على معنى مستلزمات العقد، ونفرد ثانيهما، لمحددات مستلزمات العقد.
الفرع الأول
معنى مستلزمات العقد
لم يحدد الفقه بشكل دقيق معنى مستلزمات العقد، فبينما وصفها جانب من الفقه بأنها غامضة بحد ذاتها، حاول البعض الاخر ان يحدد معناها بذكر الأمثلة لما يعد من مستلزمات العقد ، ومن المعروف ان التعريف بالمثل هو من أضعف صور التعريف .
واذا اردنا ان نحدد معنى مستلزمات العقد، فيمكن ان نجد في التفرقة التي استمدتها بعض التشريعات العربية من الفقه الإسلامي بين حكم العقد وحقوقه نقطة بداية مشجعة للوصول الى ضالتنا المنشودة في تحديد ما يقصد بمستلزمات العقد.
فحكم العقد يعني المضمون الجوهري للعقد، اذ ان لكل عقد من العقود جوهراً وذاتية خاصة تميزه من غيره من العقود، فعقد المعاوضة يقوم على اساس ان كلاً من طرفيه يأخذ مقابلاً لما يعطي، فهذه الصفة –المبادلة بين العوضين – تمثل أحدى أخص خصائص عقد المعاوضة وتميزه من عقد التبرع الذي يكون أحد طرفيه معطياً بينما يكون الاخر مستفيداً.
والعقد الذي ينقل ملكية المنفعة يختلف عن العقد الذي ينقل ملكية الرقبة والمنفعة معاً، فذاتية الاول تتمركز في نقل المنفعة وهذه من مثل الإجارة، في حين ان ذاتية الثاني تتمركز في نقل ملكية الرقبة والمنفعة معاً وهذه من مثل البيع.
من هنا، فان حكم العقد يتجسد بالأثر الاصلي له، فعقد البيع اثره الاصلي نقل الملكية، وعقد الاجارة اثره الاصلي نقل ملكية المنفعة، وعقد النقل اثره الاصلي نقل شخص او شيء من مكان الى اخر، وهكذا بالنسبة لبقية العقود.
اما حقوق العقد فهي الالتزامات التبعية التي تؤكد الاثر الاصلي للعقد او تحفظه او تكمله فهي احكام تلازم العقد وتترتب عليه ولو لم يتفق عليها، لان جوهر العقد واثره الأصلي لا يتحقق بدونها.
فعقد البيع اذا كان أثره الاصلي هو نقل الملكية، فهذا الحكم لا يتحقق الا بوجود التزامات تبعية تؤكده من مثل التزام البائع بالتسليم، او التزامات تكمله من مثل التزام البائع بتسليم الشيء وكل ما يعد من توابعه وملحقاته، او التزامات تحفظه من مثل التزام البائع بضمان التعرض والاستحقاق، وهكذا بالنسبة لبقية العقود.
ومن هنا، فان مستلزمات العقد تساوي حقوق العقد، وهي تعني مجموعة الالتزامات التبعية التي تلازم العقد وتترتب عليه بمجرد انعقاده صحيحاً، وبصرف النظر عن اتجاه ارادة المتعاقدين اليها، لان الأثر الأصلي للعقد لا يتحقق بدونها، ذلك انها تضطلع بثلاث وظائف، فهي اما ان تؤكد حكم العقد او تكمله او تحفظه.
والمعنى السابق يمكن ان نلمعه في أحد قرارات القضاء المصري3) التي حاولت ان ترسم الخط الفاصل بين الالتزام الاصلي والالتزام التبعي ( حكم العقد وحقوق العقد ) وجاء فيه: (( ويقصد بالالتزام الأصلي ذلك الالتزام الذي يحدد طبيعة العقد ويكون من مستلزماته التي لاغنى لتكوين العقد عن وجوده. والصفة الجوهرية لهذه الالتزامات الأصلية انها تكون بالنسبة لبعضها المقابل القانوني، بمعنى أنها تكون سبباً لما يقابلها من التزام. اما الالتزامات التبعية فهي كل التزام غير أصلي والعنصر الاساسي الذي تمتاز به هي انها ترمي الى تحقيق الغرض العملي الذي يقصده المتعاقدان أو تتطلبه طبيعة العقد. بمعنى ان هذه الالتزامات ترمي الى ان توفر للعقد جميع أثاره النافعة وتجعله ملائماً للظروف )).
ولايمكن القول ان مستلزمات العقد يمكن ان تنصرف إلى الأثر الأصلي للعقد (حكم العقد ) لان القاضي حينما يبدأ بأكمال نطاق العقد فانه يكون أزاء عقد صحيح، ولايتم العقد ولا يكتمل نشوئه الا بأتفاق المتعاقدين – على الأقل – على المسائل الجوهرية للعقد والتي يدخل فيها حكم العقد أي أثره الأصلي.
وأياً ما كان الامر، فان القاضي قبل ان يشرع باكمال نطاق العقد عليه البدء بتحديد الجوهر الخاص للعقد ( اثره الاصلي )، ويمكنه الوصول الى ذلك من خلال عملية تكييف العقد، أي اعطاءه الوصف القانوني المناسب، ودون التقيد بالوصف الذي ذكره المتعاقدان، فاذا ما حدد القاضي الأثر الاصلي للعقد، أنتقل الى تحديد الالتزامات التبعية التي تؤكد هذا الاثر الاصلي او تكمله او تحفظه، فيقوم باضافتها الى نطاق العقد اذا لم يشر لها المتعاقدان.
الفرع الثاني
محددات مستلزمات العقد
لم يشأ المشرع العراقي ان يترك لاجتهاد القاضي مطلق الحرية في تحديد ما يعد من مستلزمات العقد، بل قيده بمجموعة من المحددات التي عليه ان يستعين بها لتحديد الالتزامات التي تدخل ضمن دائرة مستلزمات العقد.
وبقراءة متمعنة لنص( م150 /ف2) و(م86/ف2) من القانون المدني يتبين لنا ان المشرع العراقي قد ربط بين مستلزمات العقد وطبيعة الالتزام، واشترط في المحددات التي ذكرها من مثل القانون والعرف والعدالة ان تكون متوائمة مع طبيعة الالتزام الأصلي للعقد، لذا فان القاضي حينما يقوم بأكمال نطاق العقد، فعليه ان يظل في دائرة طبيعة الالتزام ولا يخرج عنها، والا فان اجتهاده يكون عرضة للخطأ، ومن ثم النقض من قبل محكمة التمييز أو النقض2).
من هنا، فأن ما يقرره القانون أو العرف أو ما ترشدله قواعد العدالة من التزامات تبعية يعدها القاضي من مستلزمات العقد ويضيفها الى مضمون الاخير لكي يستكمل بها نطاقه لابد ان تكون متناسبة مع الغرض الاصلي للعقد، لان مستلزمات العقد ماهي الا التزامات ثانوية تؤكد أو تكّمل أو تحفظ حكم العقد، ولابد ان لا يكون هناك تعارض بينها وبين حكم العقد.
لذا فأن ما ذهب اليه جانب من الفقه1) من تعداد لهذه المحددات، وجعل طبيعة الالتزام أحداها لا ينسجممع صياغة نص (م150/ف2) مدني عراقي، او النصوص المقابلة لها في القانون المقارن2)، والتي جعلت لطبيعة الالتزام الهيمنة على المعايير الاخرى .
ونعتقد ان المشرع العراقي لم يكن موفقاً في تحديد الموجهات التي يستعين بها القاضي لاكمال نطاق العقد في الصورة التي نظمتها (م86/ف2) من القانون المدني، اذ عدّد هذه الموجهات وهي طبيعية الموضوع واحكام القانون والعرف والعدالة، وجعلها على قدم المساواة، وكان من الافضل ان يجعل هذه الموجهات مرتبطة بطبيعة العقد، لكي تتحقق الموائمة بين ما تقرره هذه الموجهات من التزامات تبعية وما تقتضيه طبيعة العقد الذي يجري اكمال نطاقه،بحيث تكون لطبيعة العقد الهيمنة على الموجهات الأخرى.
من هنا، نتمنى على المشرع العراقي ان يعدل نص (86/ف2) من القانون المدني على وفق ما بيناه،ويستبدل عبارة ((طبيعة الموضوع )) بعبارة(( طبيعة العقد)) وجعل الأخيرة الموجه الرئيسي الذي تنضوي تحته الموجهات الأخرى.
وأياً ما كان الأمر، فان المحددات التي يستعين بها القاضي لتحديد مستلزمات العقد هي3):
1- القانون: يساهم المشرع في أكمال التنظيم الإرادي للعقد بما يضعه من قواعد قانونية سواء كانت امرة أو مفسرة تنظم الجوانب المختلفة للعقد وتسّد النقص الذي قد يشوب التنظيم الذي يتفق عليه المتعاقدان.
ويسعى المشرع بوضعه قواعد تنظم الجوانب المختلفة للعقد الى تحقيق هدفين أساسيين أولهما –تفعيل العقد وذلك بأكمال اتفاق الطرفين كلما كان ذلك ضرورياً وجائزاً، لان المشرع يفضل فاعلية العقد على عدمها، وثانيهما حماية المتعاقدين بعضهم في مواجهة البعض الاخر، مهما كان المتعاقدان من حيث عدم التبصر أو عدم الدراية بالمسائل القانونية1).
من هنا، فان القانون بما فيه من قواعد مكملة يساهم في تحديد مضمون العقد، والقاضي يطبق هذه القواعد على المسائل التي لم تنظمها ارادة المتعاقدين ويعدها مندرجة في العقود الا اذا استبعدها الطرفان صراحة، ومرد ذلك ان هناك نظاماً تعاقدياً أعده القانون للعديد من العقود2).
والمثل على القواعد المكملة ما نص عليه المشرع بشأن مكان وزمان تسليم المبيع، ومكان الوفاء بالثمنوزمانه4)، وما يرجع به المشتري على البائع اذا استحق المبيع استحقاقاً كلياً أو جزئياً ، او إذا ظهر فيه عيب خفي1)، وكذا ما نص عليه بشأن الاصلاحات التي يلتزم بها المؤجر وتلك التي يتحملها المستأجر2) ، وجميعها تعد أحكاماً تكميلية لارادة المتعاقدين .
وحري بالذكر بعد هذا، ان كل عقد تكمله احكام القواعد المكملة في القانون الذي ابرم هذا العقد تحت سلطانه، فاذا تغيرت أحكام هذه القواعد في قانون لاحق فأن أحكام هذا القانون لا تسري على العقود التي أبرمت تحت سلطان القانون السابق3).
2- العرف: هو اعتياد الافراد على سلوك معين وثابت زمناً طويلاً مع الاعتقاد بلزومه وبأن مخالفته تستتبع المؤاخذة بتوقيع جزاء على المخالف، فالقواعد العرفية تنشأ في ضمير الجماعة وفي العلاقات والروابط بين الافراد في المجتمع دون تدخل من أي سلطة خارجية1).
ويضطلع العرف بدورين أساسيين في نطاق القانون المدني: فقد يكون له دوراً أصلياً من خلال سد النقص في التشريع2)، والقواعد التي ينشئها العرف ، كغيرها من القواعد القانونية ، قد تكون امرة من مثل القاعدة العرفية المقررة للحقوق الثابتة للأجانب في مصر قبل إلغاء الامتيازات الأجنبية ، أو تكون مكملة من مثل القاعدة التي تقضي باعتبار أثاث المنزل مملوكاً للزوجة3).
وقد يكون للعرف دور تابع لقواعد القانون المدني حينما يعاونها في ضبط بعض المعايير المرنة من مثل ما نصت عليه (م537 ) من القانون المدني العراقي ((يدخل في البيع من غير ذكر: ج- كل ما يجريالعرف على انه من مشتملات المبيع )) فتحديد مشتملات المبيع يستعين المشرع فيه بالعرف، او في تنظيم المسألة التي يعرض لها النص، من مثل ما نصت عليه (م175) من القانون المدني العراقي من أنه: (( الفوائد التجارية التي تسري على الحساب الجاري يختلف سعرها القانوني باختلاف الجهات ويتبع في طريقة احتساب الفوائد المركبة في الحساب الجاري ما يقضي به العرف التجاري )) ففي هذا النص ترك المشرع تحديد طريقة احتساب الفوائد المركبة في الحساب الجاري للعرف التجاري، او في تفسير قصد المتعاقدين من مثل ما نصتعلية (م163) من القانون المدني العراقي من انه: (( 1-المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص 2- والمعروف بين التجار كالمشروط بينهم )).
من هنا، فان العرف يعد أحدى الموجهات التي يستعين بها القاضي لتحديد الالتزامات التبعية التي تدخل ضمن دائرة مستلزمات العقد وفقاً لطبيعة العقد الذي يعتريه النقص وهذا ما نصت عليه صراحة (م371) من قانون الموجبات والعقود اللبناني اذ جاء فيها: (( يجب أيضاً على القاضي ان يعتد من تلقاء نفسه بالبنود المرعية عرفاً، وان كانت لم تذكر صراحة في نص العقد )).1)
كما يمكن للقاضي ان يستعين بالعادة الاتفاقية لتحديد ما يدخل في مستلزمات العقد، اذ ان لها دوراً مهماً في المعاملات القانونية بين الافراد، فهي تكمل وتفّسر العديد من العقود الا أنها لاتقوم بهذا الدور الا على أساس اتجاه ارادة المتعاقدين الى الاخذ بها 2).
والمثل على ذلك الشروط المألوفة التي جرت العادة على ادراجها في عقود معينة بحيث أصبحت جزءاً من هذه العقود ولو لم تذكر فيها، الا اذا نص المتعاقدان على استبعادها، وبذلك يجوز لكل من المتعاقدين ان يطالب الاخر بتنفيذ مقتضى هذه الشروط، ولو لم يرد ذكرها في العقد، لانها أصبحت عرفاً بهذا العقد، كالعادة التي جرت في المطاعم والفنادق والمقاهي باضافة نسبة مئوية لحساب الخدمة على الحساب النهائي للعميل1).
3- العدالة: عّرفت بأنها:(( شعور كامن في النفس يكشف عنه العقل السليم ويوحي به الضمير المستنير ويهدي الى اعطاء كل ذي حق حقه دون الجور على حقوق الاخرين))2).
فجوهر فكرة العدالة هو حصول كل أنسان على حقه، فهي وسيلة لتحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة والمحافظة على النظام اللازم لبقاء المجتمع وتقدمه، فلا وجود للنظام بدون العدالة3).
بيد ان قواعد العدالة لا تمدنا بقواعد قانونية منضبطة، والمشرع حينما أحال القاضي الى قواعد العدالة لم يشأ ان يتركه بلا مصدر يرجع اليه اذا ما افتقد الحل للقضية المعروضة امامه في التشريع أو العرف أو مبادئ الشريعة الإسلامية، لذا فأن المشرع حينما أجاز للقاضي ان يرجع الى قواعد العدالة، قصد من ذلك ان يجتهد القاضي رأيه للوصول الى الحل الذي يطبقه على الحالة المعروضة أمامه، مستنبطاً القاعدة التي يراها أقرب الى تحقيق العدالة، مراعياً في ذلك الظروف والملابسات التي تحيط بالمسألة المعروضة أمامه 4).
وقد يستعين القاضي بقواعد العدالة لتحديد مضامين بعض القواعد المرنة أو لتعديل البعض من هذه المضامين اذا كان التطبيق الجامد للقاعدة القانونية يؤدي الى الظلم1).
من هنا، أجاز المشرع العراقي للقاضي بموجب نص ( م86/2 ) و(م150/2) من التقنين المدني ان يرجع الى قواعد العدالة لتحديد مضمون فكرة مستلزمات العقد، وما يدخل فيها من التزامات، لتكملة نطاق العقد الذي يشوبه النقص.
بيد أن القاضي لا يجوز له ان ينظر الى العدالة علىوفق مفهومه الخاص أو أن يُعمل فكرته الشخصية للعدالة عند اكمال نطاق العقد، وانما عليه ان ينطلق من اعتبارات موضوعية تنسجم مع طبيعة العقد، وما يستلزمه مبدأ حسن النية في تنفيذ العقد من قيام المتعاقدين بسلوك المسلك المطابق للثقة المشروعة المتولدة من تبادل الرضا فيما بينهما2).
من هنا، ذهب جانب من الفقه الى تخصيص المعنى العام للعدالة بمعنى محدد هو" العدالة ذات الطابع الفني" وتعني التوسع في مضمون العقد على وفققواعد التجربة بحيث يسود التوازن والتناسب بين الاداءات المتقابلة على وفق معايير التجربة الفنية، لا وفقاً للمثالية الشخصية للقاضي، فالعدالة هنا هي العدالة المكملة لاثار العقد عند عدم تنظيم المتعاقدان لآثاره في مسألة معينة3).
والواقع ان المشرع العراقي قد أدرك أن العدالة تتصف بانها فكرة واسعة ولا تحدها حدود، لذا فقد قيد معناها العام والفضفاض حينما ربطها بطبيعة الالتزام، فالعدالة التي يلجأ اليها القاضي عند أكمال نطاق العقد هي المنسجمة مع طبيعة العقد.
وقد أستند القضاء الفرنسي الى قواعد العدالة لإثراء مضمون العقد بالعديد من الالتزامات، من مثل الالتزام بالسلامة الذي فرض على عاتق الناقل لمصلحة الراكب1). والالتزام بعدم المنافسة الذي فرض على عاتق بائع المحل التجاري لمصلحة المشتري بان لا ينافسه بما يؤدي الى انتزاع عملاء المتجر2) ، والتزام
العامل بعدم أفشاء الأسرار الصناعية الخاصة بالمصنع الذي يعمل به3).
ومن الالتزامات التي تقتضيها العدالة، ان البائع لا يلتزم فقط بنقل ملكية المبيع، ولكنه يلتزم ايضاً بالامتناع عن كل عمل من شأنه أن يجعل نقل الملكية مستحيلاً او عسيراً (م535 مدني عراقي )، وكذلك ان الدائن عندما يستوفي حقه من الكفيل فعليه ان يسلمه كل المستندات اللازمة لاستعمال حقه في الرجوع على المدين بما وفاه ( م1026 -1 مدني عراقي ).
وحري بالذكر بعد هذا، ان خلافاً قد نشب في الفقه حول مدى التزام القاضي بالترتيب الذي ورد في (م150/2) مدني عراقي والنصوص المقابلة لها4) ، حينما يشرع بأكمال نطاق العقد ، وقد أنقسم إلى فريقين :
يرى أولهما ان القاضي عليه أن يتقّيد بالترتيب الذي ورد في نص (م150/2) مدني عراقي والنصوص المقابلة لها في القانون المقارن، فلا يجوز للقاضي ان يرجع الى العرف الا عند عدم وجود قاعدة في القانون، ولا الى العدالة الا عند عدم وجود قاعدة في العرف1).
بينما يرى ثانيهما، وهو ما نميل اليه ونتبناه، ان القاضي يكمل نطاق العقد بالرجوع الى الموجهات الثلاث السابقة مجتمعة، فاذا وجد القاضي ما يكمل نطاق العقد في قواعد القانون، فيمكنه ان يستمر في البحث عن تكملة أخرى في العنصرين التاليين، لأنه بصدد تحديد مستلزمات العقد التي قد توجد موزعة على العناصر الثلاثة، فتعدد المستلزمات لايعني تعارضها وإنما تكاملها2).
وما يؤيد التحليل السابق، أن القاضي سيكون خاضعاً لرقابة محكمة التمييز او النقض عند اكمال نطاق العقد من حيث تحديد معنى مستلزمات العقد، والالتزامات التي تدخل في نطاقها، فاذا أهمل في ادخال التزام كان يجب ان يضيفه الى مضمون العقد، او أذا زاد التزاماً ما كان يصح ان يرتبه على العقد كان هذا مؤدياً الى نقض الحكم3).
المبحث الثاني
الاسباب التي دفعت القضاء الفرنسي لتعزيز محتوى العقد
كان القضاء الفرنسي مدفوعاً بعوامل متعددة في جهوده لتعزيز محتوى العقد، لعل من أبرزها التطور المستمر والمتلاحق الذي يشهده المجتمع في المجالينالاقتصادي والتقني، مما جعل العقد في ظل القوالب التقليدية التي رسمتها له نظرية سلطان الارادة عاجزاً عن تحقيق التوازن بين أطرافه، فلم يعد وسيلة لتبادل الاداءات المتقاربة ان لم نقل المتساوية، بل أصبح أحد طرفيه في مركز خضوع للاخر بسبب الخلل في عنصر المعرفة التقنية أو بسبب ما يمتلكهمن قوة أقتصادية تؤهله لان يفرض شروطه على الطرف الاخر.
كما ان الفقه والقضاء الفرنسيين عملا على تفعيل مبادئ جديدة في نظرية العقد تقوم على سيادة روح التعاون الايجابي بين المتعاقدين وزرع بذور الثقة في العلاقة بينهما، والزامهما باتباع المسلك الذي يقتضيه مبدأ حسن النية والأمانة في التعامل، حتى يكون العقد وسيلة عادلة لتحقيق مصالحهماالمشتركة.
من هنا، مارس القضاء الفرنسي يدعمه جمهور الفقه، اجتهاداً خلاقاً مستفيداً من القواعد القانونية المرنة وخاصة نص (م1134) و(م1135) من القانون المدني الفرنسي، هدفه تعزيز محتوى العقد بجعله يتضمن التزامات متعددة كان أخرها الالتزام بالاعلام أو التحذير أو النصيحة.
ومن أجل الاحاطة بالاسباب التي دفعت القضاء الفرنسي الى تعزيز محتوى العقد سنقسم هذا المبحث على مطلبين: نخصص اولهما للاختلال في التوازن الاقتصادي والمعرفي بين المتعاقدين، ونكرس ثانيهما للمبادئ الجديدة التي شاعت في نظرية العقد.
المطلب الاول
الاختلال في التوازن الاقتصادي والمعرفي بين المتعاقدين
لعل أبرز ما يمّيز مجتمعنا في العصر الراهن التطور الاقتصادي والتقني المتلاحق الذي يشهده كل يوم بحيث أصبحنا أزاء ثورة في المجالات الاقتصادية والتقنية، الأمر الذي يستلزم من قواعد القانون أن تكون مرنة لتستوعب كل هذه التطورات، باعتبار انهذه القواعد ماهي الا انعكاس لما يشهده المجتمع من تطور اقتصادي واجتماعي.
كما ان العقد بوصفه يمثل وسيلة مهمة من وسائل التبادل الاقتصادي بين الأشخاص، لايمكن لقواعده ان تبقى جامدة وبعيدة عن هذا التطور والا أصبح وسيلة غير ذات جدوى.
ولعل من أهم ما يجب أن يتصف به العقد قدرته على حماية المتعاقدين وتحقيق التوازن في العلاقة بينهما، سواء أكان التوازن أقتصادياً أم قانونياً.
ومن أجل ان نسلط الضوء على هذا العامل الدافع للقضاء الفرنسي لتعزيز محتوى العقد سنقسم هذا المطلب على فرعين: نفرد أولهما لعوامل التطور الاقتصادي والتقني، ونبحث في ثانيهما حماية الطرف الضعيف في العلاقة العقدية.
الفرع الأول
عوامل التطور الاقتصادي والتقني
تتميز قواعد القانون بأنها وليدة الحياة الاجتماعية، فهي انعكاس لما يشهده المجتمع من تطورات سياسية أو أقتصادية أو اجتماعية، ولتكون هذه القواعد صالحة للتطبيق على أرض الواقع كان لزاماً عليها مواكبة ما يشهده المجتمع من تطورات حتى تكون معبرة عن آمال افراد المجتمع في تحقيق الامن القانوني الذي يرمون الوصول اليه.
لذا تسعى النظم القانونية وبشكل مستمر ان تقدم الاليات والوسائل التي تواكب تطور المجتمع، وتعالج ما قد يظهر من قصور أو خلل في تنظيم الروابط الاجتماعية والاقتصادية، ليكون باستطاعتها تحقيق العدل بين الاشخاص من خلال اقامة التوازن بين اطراف العلاقة القانونية.
ولما كان العقد يعد الأداة الاكثر تداولاً في انشاء العلاقات بين الأشخاص وترتيبها، نجد أن المبادئ التي تنظمه هي أوضح ما تعرض للتطور، ولنأخذ القانون المدني الفرنسي مثلاً على ذلك، نظراً للتطورات التي طرأت على نظرية العقد في ظله، فحينما شرع هذا القانون رسم واضعوه صورة في غاية البساطة للعملية العقدية، تقوم على فكرة ان العقد يتم بارادتين متطابقتين بغية احداث أثر قانوني بين طرفين متساويين في المراكز الفعلية والقانونية وفي القوة والحاجة الى التعاقد، دون أن يخضع أحدهما لاعتبارات الاذعان أو الاكراه أو الغلط أو التدليس من الطرف الاخر، وهذا ما كان يتناغم مع الفلسفة الفردية ونظرية سلطان الارادة.
وكان التوجه السابق يعكس البساطة في المعطيات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت قائمة آنذاك، حيث لم تكن قد ظهرت رؤوس الاموال الضخمة أو التجمعات الاقتصادية الكبيرة، بل كانت العلاقات الاقتصادية تنشأ في أطار النظم الحرفية والعائلية، وغالباً ما يتم التعامل بين أشخاص يقيمون في اقليم واحد مرتبطين فيما بينهم بعلاقات المعرفة الشخصية أو المهنية.
كما أن العقارات والمنقولات التي كانت محلاً لهذه المعاملات كانت تتميز بالبساطة وعدم التعقيد، معروفة لمن يتعامل بها، أما عن طريق المعرفة الشخصية أو الثقة المتبادلة بين أطراف العملية العقدية.
بيد أن الصورة السابقة قد تغيرت مع تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في ظل ما يشهده المجتمع ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين من تقدم اقتصادي وتقني، الامر الذي جعل قوالب العقد التقليدية امام تحد كبير، فقد تطورت الاشياء والخدمات على نحوٍ لم يكن معروفاً عند وضع التقنين المدني الفرنسي، ثم تشابكت وسائل التجارة وظهرت عقود وأشكال قانونية جديدة للمعاملات رافقتها وسائل جديدة للاعلان والتسويق لاغراء الناس للاقدام على التعاقد.
من هنا، فان المساواة بين أطراف العقد لم تعد تتفق مع الواقع، فقد توجد المساواة القانونية ولكنها مساواة ظاهرية لا تستطيع ان تخفي عدم المساواة الواقعية بين اطراف العقد، فالمساواة بين المتعاقدين لا تتحقق الا اذا كانا متماثلين في الذكاء والخبرة والقابلية على التفاوض وفي المركز الاقتصادي والاجتماعي.
فقد أصبحنا بسبب التجمعات الاقتصادية والتجارية أمام تباينات فنية وقانونية ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل وعلى المستوى المعرفي أيضاً، وتبدوهذه التباينات واضحة في علاقة المستهلكين بالمهنيين5)، هذه العلاقة العقدية التي تتميز بعدم المساواة في العلم بين أطراف العقد ، بما يجعل طرفاً- المستهلك – في وضع أقل من الاخر الذي يتميز بقوة اقتصادية كبيرة ، والعلم بكافة ظروف وتفاصيل العقد، بينما يضطر المستهلك لشراء منتجات وسلع لا يحيط علماً بكل مكوناتها او خصائصها ، فضلاً عن اوجه استعمالاتها المتعددة لما تتميز به هذه المنتجات من دقة في التركيب وصعوبة في الاستعمال ، وهذا ينشيء عدم توازن في العلاقة العقدية ينتج من عدم الخبرة وعدم العلم1).
وقد أحدثت هذه الظاهرة الجديدة في العلاقات العقدية تحولاً في مفهوم عقد الاذعان، فلم يعد قاصراً على الحالة التي يحتكر فيها أحد المتعاقدين بمقتضى القانون أو بحكم الواقع تقديم خدمة جوهرية أو ضرورية للمتعاقد الاخر من مثل توريد الماء أو الكهرباء، بل أتسع نطاق عقد الاذعان بفعل التفوق الظاهر لأحد طرفي العقد بما يمكنّه من فرض شروط مسبقة على عملائه بسبب ما يملكه من تفوق أقتصادي ومعرفي، أو لأهمية الخدمة التي يقدمها في العقد، أو لأضطرار الطرف الاخر لابرام العقد بتأثير ظروف معينة أو أزمة معينة من مثل أزمة السكن التي قد تدفع المتعاقد الى ابرام عقد شراء وحدة سكنية دون ان يعلم بتفاصيل العقد وشروطه، من هنا أصبحنا ازاء العديد من العقود التي تتميز بالابرام السريع، أو بعبارة أدق، الانضمام الفوري دون أن تمر بمرحلة المفاوضات أو المناقشات التي تسبق أبرام العقد عادة1).
أضف الى أن التقدم التقني قد أحدث تنوعاً هائلاً في السلع والخدمات التي يقدم المستهلك على شرائها دون معرفة وافية بماهية هذه السلع نظراً لما تتصف به من تعقد في التركيب وصعوبة في الاستعمال، حتى ان قلة الخبرة بهذه السلع لم تعد قاصرة على المستهلك العادي، بل شملت أشخاصاً قد يكونون محترفين في مجال هذه السلع ولكنهم ليسوا بخبرة المنتجين لها من مثل منتجي السلع الالكترونية واجهزة الحاسب الالي والبائعين والموزعين لها، اذ يتفوق المنتجون بخبرتهم على هؤلاء البائعين والموزعين، فالمستهلك سواء أكان شخصاً اعتيادياً أم محترفاً ولكن ليس في تخصص المنتجنفسه حينما يقدم على شراء سلعة ما، فانه غالباً ما يجهل او لا يعرف شيئاً عن تركيبها أو الاستعمالات الدقيقة لها2).
ولا يقتصر الأمر على السلع التي تتميز بالجدة والابتكار، فقد ظهرت العديد من المنتجات التي تتصف بالخطورة بسبب طبيعة تركيبها من مثل الأدوية والسموم والمتفجرات، أو بسبب تعقّد استعمالها ودقته من مثل الأجهزة والأدوات الكهربائية، أو تكون خطرة في بعض الظروف دون البعض الاخر من مثل المواد القابلة للاشتعال3).
واذا يممنا وجهنا نحو القانون المدني العراقي نجد انه شرّع في مدة زمنية أصبح المجتمع البشري فيها يعتمد في عيشه أساساً على الصناعة الحديثة ومتطلبات التقدم التقني، لذا حاول أن يقنن كل ما وصل إليه التطور التشريعي والقضائي في حينه لمعالجة ظاهرة اللامساواة في العلاقات العقدية.
بيد أن التطورات التقنية والمعرفية المتسارعة، وما شهده المجتمع العراقي من تطورات اقتصادية واجتماعية، قد أفرز ظواهر جديدة من عدم المساواة بين المتعاقدين، فظهور التجمعات الاقتصادية والتجارية التي تحتكر تقديم خدمة ما, قد جعل المستهلك العادي في موقف المذعن لما تضعه من شروط، كما ان تدفق السلع والخدمات التي لا يعرفالمستهلك العراقي الكثير عن ماهيتها او أوجه استعمالاتها المختلفة او طرق الوقاية من مخاطرها اذا كانت ذات صفات خطرة قد وسع الفجوة بين المتعاقد العادي والمتعاقد المحترف الذي يملك الخبرة أو المعرفة الوافية بمحل العقد.
وظاهرة اللامساواة التي أفرزتها عوامل التطور التقني والاقتصادي حتمت ضرورة تأمين حماية فعّالة وحقيقية للطرف الضعيف الأقل قوة اقتصادية ومعرفة تقنية وهذا ما سنبينه في الفرع الثاني.
الفرع الثاني
حماية الطرف الضعيف في العلاقة العقدية
حاول القضاء الفرنسي على أثر تفشي ظاهرة اللامساواة في العلاقات العقدية، بسبب التطورات الاقتصادية والاجتماعية، ان يجد وسائل فعّالة تكفل قدراً من الأمانة في العملية العقدية، ويكون من شأنها كبح جماح بعض المتعاقدين الذين يسعون إلى الإفادة من وضعهم المتميز بسبب ما يملكونه من معلومات وخبرة على حساب الطرف الاخر الأقل معرفة وخبرة.
من هنا، قام هذا القضاء بجهد متميز لتطويع النصوص التشريعية المرنة لتوفير حماية فعالة للطرف الضعيف في العلاقة العقدية بسبب قلة خبرته في مواجهة أصحاب المهن المحترفين.
وقد تعددت مظاهر هذه الحماية، ففي عقد البيع قام القضاء الفرنسي بتطويع قواعد ضمان العيوب الخفية بتشبيه البائع المحترف بالبائع الذي يعلم بالعيب لإلزامه بتعويض المشتري عن الأضرار التي يحدثها المبيع، فالبائع المهني يلتزم بتقديم سلعة خالية من العيوب ومأمونة الاستعمال، ومن الأحكام القضائية التي أسست لهذا المبدأ حكم محكمة استئناف روان التي قضت " بضرورة إخضاع البائع المحترف، صانعاً كان أم تاجراً لنص (م1645) لأنه ضامن لجودة منتجاته ولا يمكنه أن يدعي الجهل بعيوب الشيء الذي يصنعه أو يبيعه".
وفي المعنى نفسه قضت محكمة النقض الفرنسية بما نصه: (( من الملائم ان يشبه البائع الذي يعلم بوجود العيب الخفي بالبائع الذي لا يمكنه بالنظر الى مهنته، ان يجهل وجود العيب، الامر الذي يتعين معه الزامه فضلاً عن رد الثمن بتعويض المشتري عما لحقه من خسارة وما فاته من كسب ))3).
بيد ان القضاء الفرنسي لاحظ ان الاضرار التي تلحق بالمستهلك من جراء استعماله او استهلاكه للسلع لا ينحصر مصدرها بالمنتجات الضارة بسبب العيوب، فقد يلحق المستهلك ضرراً من جراء استعماله او استهلاكه منتوجاً لا يحتوي على أي عيب، وهذا ما يحصل بالفعل بسبب المنتجات ذات الطبيعة الخطرة1).
فاذا أصيب المشتري بضرر من هذا المنتوج فلا يمكنه الرجوع الى البائع بموجب قواعد ضمان العيوب الخفية تأسيساً على انه لم يخطره أو ينبهه من خطورة الشيء، لأن البائع لا يلتزم بالاخطار الا عن خصائص الشيء المبيع وفقاً لضمان العيوب الخفية2).
كما لا يستطيع المشتري ان يرجع على البائع علىوفق قواعد المسؤولية التقصيرية، لانه لا يوجد خطأ يمكن نسبته الى البائع الذي قام بتسليم السلعة الى المشتري على وفق رغبته وإرادته تنفيذاً للعقد المبرم بينهما، ولا يستطيع ان يرجع عليه وفقاً لقواعد المسؤولية عن الأشياء، لان الحراسة قد انتقلت الى المشتري بمجرد تسليمه الشيء المبيع، الامر الذي يجعله هو المسؤول تجاه الغير عن الاضرار الناتجة عنه باعتباره حارساً له3).
من هنا، وبغية توفير حماية فعالة للمشتري الزم القضاء الفرنسي البائع المحترف بالتدخل لمعاونة المشتري في الحصول على المعلومات التي يفتقر لها بحكم عدم تخصصه وقلة خبرته، بما يتيح له تحقيق أفضل افادة من السلعة محل الاستعمال، وبما يحقق له الامان في مواجهة المخاطر والأضرار المحتمل حدوثها بسبب خطورة السلعة الذاتية او الخطورة الناجمة عن سوء التخزين أو الاستعمال، وقد أتسع نطاق هذا الالتزام ليشمل من ناحية أولى الالتزام بالإعلام بالمعلومات اللازمة لحسن استخدام السلعة ، والالتزام بتحذير العميل من المخاطر المرتبطة بحيازة السلعة أو استخدامها من ناحية ثانية، وقد قضت محكمة النقض الفرنسية على ان (( البائع المهني في المعدات عليه ان ينصح الجاهل في هذا الحقل ويزوده بالمعلومات ولاسيما لفت انتباهه الى السلبيات الملازمة لنوعية المعدات التي يختارها زبونه )).
ولم يقف القضاء الفرنسي عند هذا المستوى في جهوده لتوفير حماية للمشتري، بل ذهب الى ابعد من ذلك حينما فرض التزام بالسلامة على عاتق البائع لمصلحة المشتري، وكان حكم محكمة استئناف Douai الرائد في تقرير هذا الالتزام في عقد البيع إذ جاء فيه: (( الجهاز الكهربائي، محل النزاع، لم يكن مشوباً بأي عيب خفي يجعله غير صالح للاستعمال الذي خصص له ... الا ان شركة سنترافونت اذ اغفلت تعيين الطريقة المثلى لاستعماله، وتوضيح ما يمثله احكام ربط الوعاء الزجاجي على دعامته اللولبية من أهمية لسلامة المستعملين وما يجب اتخاذه من الاحتياطات في حالة عدم انتظام أو انحراف هذا الوعاء فانها تكون بذلك قد أخلّت بالالتزام بالسلامة المتولد من العقد وارتكبت خطأ يعد هو السبب المباشر والمنتج في وقوع الحادث حتى ولو كان المضرور الذي لم يخبر كما ينبغي، قد وضع يده بلا حذر على هذا الوعاء دون ان ينتبه الى ضرورة فصل التيار الكهربائي)).
وقضت محكمة النقض الفرنسية في نفس المعنى بما نصه: (( ان البائع لا يلتزم الا بتسليم المنتجات الخالية من أي عيب أو أي شائبة صنع من شأنه ان يشكل خطراً على الاشخاص أو الاموال )).
كما ان القضاء الفرنسي استفاد من سلطته في تعديل الشرط التعسفية، التي تعطي لأحد المتعاقدين فائدة مفرطة على حساب الطرف الاخر، لحمايةالطرف الضعيف، فقد يحصل أن يستغل المهني قدرته الاقتصادية وخبراته المتراكمة فيضمن العقد الذي يبرمه مع المستهلك شروطاً تجلب له فائدة مفرطة وتجنبه من المسوؤلية في حالات كثيرة، وبمايؤدي الى خلق عدم توازن بين حقوق والتزامات اطراف العقد1)،وقد تدخل القضاء الفرنسي بتعديل هذه الشروط2)،كما ان قانون الاستهلاك الفرنسيقد منع هذه الشروط فقد نصت المادة (132-1)على انه:((الحماية -حماية المستهلك- تستند إلى المنع العام للشروط التعسفية،كتلك التي يكون موضوعها او اثرها-ان تخلق اضراراً بغير المهني-عدم توازن واضح بين حقوق والتزامات أطراف العقد)).4)
نخلص مما تقدم، ان القضاء الفرنسي قد مارس اجتهاداً خلاقاً من خلال تطويع النصوص المرنة في القانون المدني الفرنسي بهدف تعزيز محتوى العقد بعدد من الالتزامات الهادفة الى توفير حماية للطرف الضعيف في العلاقة العقدية، واعادة التوازن الذي أختل بفعل الفجوة المعرفية أو التقنية التي افرزتها عوامل التطور التقني والاقتصادي، وبعبارة أخرى، ان عوامل التطور الاقتصادي والتقني وما افرزته من ظاهرة اختلال في التوازن العقدي بفعل التفوق التقني أو الاقتصادي لأحد المتعاقدين كان دافعاً للقضاء الفرنسي للاستفادة من سلطته في اكمال نطاق العقد وفقاً للمادة (1135) من القانون المدني الفرنسي، باضافة التزامات تعيد التوازن العقدي المفقود، وتوفر الحماية للطرف الضعيف بسبب قلة خبرته او عدم معرفته.
اما القضاء العراقي فقد ظل بمعزل عن هذه التطورات، على الرغم من شيوع ظاهرة اللامساواة في العلاقات التعاقدية في ظل ما يشهده المجتمع العراقي من تحول من الاقتصاد الموجه الى الاقتصاد الحر، والتدفق الكبير للسلع التي لا يحيطالمستهلك العراقي علماً بكل خصائصها وأوجه استعمالاتها المختلفة، واحتكار بعض التجمعات الاقتصادية تقديم خدمة معينة، مما جعل المستهلك في موقف المذعن في علاقته مع هذه المؤسسات.
لذا ندعو القضاء العراقي ان يطوع باجتهاد خلاقالقواعد المرنة في القانون المدني العراقي وخاصة نص (م150/ف2) لتوفير حماية فعالة للطرف الضعيف في العلاقة العقدية، والاستفادة من تجارب القضاء الفرنسي في هذا المجال، لان المعالجة التشريعية لهذه الظواهر قد تأخذ زمناً طويلاً وإجراءات معقدة، وهذا قد يؤدي الى الحاق الضرربفئة كبيرة من المجتمع العراقي.
المطلب الثاني
شيوع مبادئ جديدة في نظرية العقد
كان المبدأ السائد في ظل نظرية سلطان الارادة، ان على كل متعاقد أن يؤمن مصالحه الخاصة بوسائله الذاتية، ومن ثم يتعين عليه ان يجمع المعلومات الضرورية لكي يقدم على التعاقد وهو عالم بحقيقته، لان العقد يفترض تعارضاً في المصالح بين كل من طرفيه، لذا سيسعى كل متعاقد الى تحقيق مصالحه الخاصة ولو على حساب مصالح المتعاقد الاخر، الامر الذي يحتم وجود صراع مستمر يخفيه التعاون العقدي الظاهر.
الا ان هذه النظرة للعقد قد تغيّرت بفعل عوامل التطور الاقتصادي والتقني وما صاحبه من خلل في التوازن العقدي، وأضحى العقد (( وسيلة اتحاد بين المصالح المتوازنة واداة للتعاون الصادق ونتاج للثقة المتبادلة بين الطرفين المتعاقدين )). فقد أصبح ينظر للعلاقة العقدية على انها (( تشكل عالماً أو مجتمعاً صغيراً يجب على كل فرد فيه ان يعمل من أجل هدف واحد الا وهو مجموع الاهداف الفردية التي يسعى اليها كل شخص، وبذلك يحل محل التعارض بين مصلحة الدائن ومصلحة المدين نوع معين من الاتحاد بين هذه المصالح المتعارضة بحيث يصبح العقد في النهاية اداة للتعاون الصادق بين الطرفين)).
كما ان شيوع مبدأ التخصص في العلوم والمهن وما صاحبه من سياسة تشريعية تقصر ممارسة مهن معينة على طائفة محددة من الاشخاص تتمتع بمؤهلات فنية وعلمية خاصة تؤهلها لممارسة عمل مهني معين من مثل المهندس المعماري والمحامي والطبيب، فرضت على صاحب الشأن ان يلجأ الى مهني معين يحتكر تقديم هذه الخدمة، والعميل حينما يلجأ لهذا المهني فأنه يفترض فيه الثقة، حيث تنشأ بينهما رابطة قوامها الثقة المشروعة، لذا فأن أي خلل أو تقصير في تقديم الخدمة من جانب المهني سيشكل خرقاً لهذه الثقة المشروعة بينهما.
وقد كان لشيوع هذه المفاهيم الجديدة في نظرية العقد أثر كبير في تحرك القضاء الفرنسي لتعزيز محتوى العقد وفرض التزامات جديدة على عاتق أحد المتعاقدين لمصلحة المتعاقد الاخر، لتكريس التعاون الايجابي بينهما، وحماية الثقة المشروعة التي حتمها مبدأ التخصص المهني.
وبغية الاحاطة بما تقدم، سنقسم هذا المطلب علىفرعين: نخصص اولهما للتعاون الايجابي بين المتعاقدين، ونكرس ثانيهما للثقة المشروعة بين المتعاقدين
تعليقات
إرسال تعليق